الجذور الفلسفية لمقالة الاستغاثة

د

تمثيل القرون الوسطى لأفلوطين.

توطئة

كثير من الناس، يحاول أن يبحث ما يتعلق بدعاء المقبورين وطلب الغوث منهم، على أساس أنه من باب النقاش الفقهي المحض، ونظير ذلك ما يحدث في النقاشات الكلاسيكية مع بعض الفرق الكلامية، إذ ينسحب النقاش في أوله إلى مربع دلالة النص الشرعي على ذي العقيدة أو تلك، لتضحى النكاية منحصرة في سحب الحجة الشرعية عن المخالف، وهذا طيب، لذا ألف ابن تيمية كتابا بعنوان قاعدة في أن كل دليل يحتج به مبتدع ففيه دلالة على بطلان قوله، لكن صرف النظر عن الأصول التاريخية لقول المبتدع، يبقي البحث ناقصًا.

مقدمات مقالة الاستغاثة

بعيدًا عن البحث الفقهي، مقالة الاستغاثة بالقبور، التي مفادها الاستغاثة بمن في القبور ما الذي تحويه من مقدمات؟ يأتي في عصر ترجمة الفلسفة اليونانية، وعلى وجه التحديد، مقالات أفلاطون، وأفلوطين، فيلحق ذلك بروز لكتاب أثيولوجيا لأفلوطين المنسوب غلطًا لأرسطو، إضافة لجملة من الكتب المثالية الأخرى، تتناول ذي الكتب مقالات مختلفة، في السياسة، في الدولة، في اللاهوت، في الحكمة، في البعث، في الرياضيات، في المنطق، وفي التعبد والتأله.

خريطة اليونان
خريطة اليونان

وبناء على ذلك، فإن هذه المؤلفات تفيد أن الإنسان الكامل، الذي هو الولي الصالح الذي يجتنب كل الشرور، المُستغاث به لدى الناس، فقد نشأت الذهنية المركبة حوله بناء على مقولات أجنبية عن الشريعة، تقول بملء الفم:

ما دام الشر يتجول في هذه المنطقة من الكون، وما دامت النفس راغبة في الفرار من الشر، فلا بد من الهرب، ولكن كيف نهرب؟ قال أفلاطون: بالتشبه بالله1

تاسوعات أفلوطن
تاسوعات أفلوطن

نحو الاتساق بين الوافد وبين المتعارف عليه

وبما أن الكامل أجنبي عن كل شر، سيحصل كماله بالتشبه بالإله على نحو دقيق، سيجري التأصيل سريعا نحو إنتاج الاتساق بين الوافد اليوناني، وبين المتعارف الإسلامي، فالشر موجود في عالم الكون والفساد، عالم الأجسام، بخلاف عالم المثل الذي هو خير محض، فمن رام أن يكون هاربًا من الشر [باصطلاح أفلاطين] وليًا صالحا [باصطلاح إسلامي] عليه أن يتشبه بهذا الإله المثالي، وهنا تأتي كلمة أفلوطين أن:

أن النفس انحدرت إلى هذا العالم الحسي الجسماني فصارت في هذا البدن الغليظ السائل الواقع تحت الكون والفساد 2

فمن رام الولاية الإلهية حسب أفلوطين، كيف يفعل؟ يقول أفلوطين: “إنني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني جانبًا كأني جوهر مجرد لا بدن، فأكون داخلا في ذاتي راجعا إليها خارجًا عن سائر الأشياء… ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي” 3 فالإله وفق الذهن المثالي، يتشبه به العبد بخلع صفاته الجسمانية، ليترقى بذاته عن عالم الأجسام، إلى عالم المثل الأفلاطوني. وهنا، تلحظ الاتساق كيف يفرض توازي الاطراد على مستويين، فالحنبلي، أو المثبت الذي يرى تعيُّن وجود الإله وقابليته للحس، لا يوصله الاتساق إلى مقالات من قبيل التشبيه المبني على مثالية الإله والذي تقاسمه الروح البشرية في ذلك، فلا تجد مثبتا يقبل إطاره العقدي اشتراك الإله والإنسان فيما هو من خصائص الإله كالرزق وإعطاء الولد ونحو ذلك.

بخلاف من بُنِيت مقالاته على اشتراك الإله والإنسان في جانب إلهي، وهو التجريد المثالي، فأفلاطون الذي يرى أن الروح “تشبه ما هو إلهي وخالد ومعقول وذو صورة واحدة، وما هو غير قابل للانحلال وما هو دائما بذاته وإن الجسد يشبه ما هو إنساني وفان وغير معقول وذو أشكال متعددة” 4 يبني على فكرة أن كل من تجرد عن الصفات الجسمانية يقبل التأليه، فالأفلاك التي هي مثالية خالصة لديه، كان يعبدها إضافة لعبادته الإله، لمثاليتها، لإلهياتها، لمعقوليتها، كما كان يعبد العقل الفعال، وهنا تأتي كلمة الرازي أن الأفلاك لا يمنع شيء من كونها مألوهة، إلا كونها متناهية، مركبة، في جهة، فرأيه في صفاتها على خلاف رأي أفلاطون، لا أن أصول أفلاطون في تأليه كل من تجرد وصار معقول الذات استحق الألوهية خطأ.

صورة تخيلية لأفلاطون
صورة تخيلية لأفلاطون

انعكاس النتائج على مفهوم الولاية

عندما يتم إقحام ذهنية كهذه في الوسط الصوفي، ما الذي ينتج؟ الروح البشرية، التي كانت تعيش رفقة الإله، في عالم المثل، تنزل إلى الأرض لتتحد بالجسم الشرير، فيتعين على [الولي الصالح] أن يتجرد عن جسمه، وحواسه، ليعود مألوها خالصًا. وفي سياق مقولة أفلاطون حول التشبه بالإله، يقول أرباب التصوف، مثل أبي علي الفارسي فيما ينقله عن شيخه أبي القاسم الكركاني:

إن الاسماء التسعة والتسعين، تصير أوصافا للعبد السالك، وهو بعدُ في الطريق غير واصل 5

فالعبد، إذا بالغ في خلع الجسمانيات، بناء على التجريد الأفلاطوني، تتحصل له بواسطة التشبه بالإله كل أسماء الإله، فيضحى مألوهًا، رازقًا مجيبًا، وهنا تصير الروح الإلهية لدى أفلاطون، هي نظير الولي الإلهي لدى منظري التصوف الفلسفي، كما أن الأفلاك المعبودة لدى أفلاطون، هي نظير الولي الذي في قُبِرَ جسمه لدى أصحاب التصوف الفلسفي، فالولي هنا فهو رجل كامل الخير، لا علائق حسية تشوبه، متجرد تجردًا تامًا، ذو ذات معقولة، متعالية كل التعالي عن عالم الأجسام.

هذا الولي الذي هو على طراز ما في كتاب أثيولوجيا، يترقى بنفسه عن عالم المثل، ليضحى جوهرا مجردا بلا بدن، وبواسطة التشبه بالإله، صار مشاركًا في نهاية المطاف -إذا ما فجرنا ذي الأطروحة لأقصى لوازمها- لهذا الإله في خصائصه، فالولي المتجرد مثاليًا، يرزق، ويمنع، ويسبط، ويهب البنين، ويحي ويميت، وهو في عالم المثل خاصته، فليس بميت بموت [الجسم] وإنما تحول من خير مختلط ببعض الشر [الجسم] إلى خير محض أعلى، صار كائنًا إليهيًا خالصًا.

صورة لضريح في مصر
صورة لضريح في مصر

وهنا تلمح معالم الأصل الكلي في الفلسفة المثالية على مستوى [الدعاء]، فعلى مستوى اللاهوت: ينتج الخلق المادي عن الإله المثالي، كما ينتج في شق معتزلي: الفعل المادي عن باعث مثالي لا مادي، أما على مستوى الدعاء لدى أصحاب التصوف الفلسفي، تنتج الإجابة [المادة: رزق معين] عن روح مثالية سكن جسدها القبر، فالولي حين اختلاطه بالجسم المادي، ليس يؤدي مفعولا في تحصيل الأرزاق كما لو كان غير مختلط به، فالذي يُطلب من القبور، ليس الجسد الميت وفق أصحاب التصوف الفلسفي- الأفلاطوني، وإنما تلك الروح التي كانت في ذلك الجسد. والتي يُنظر فيها كما قال أفلاطون على أنها: إلهية.

موقع ابن سينا من الأفلاطونية

وفي هذا السياق تأتي مناجاة ابن سينا، الذي كان مدركا لوازم الطرح الأفلاطوني، ولو لم يكن من الزهَّاد في الملذات الحسية، يقول: “رزقنا الله التجرد التام، والتأله الكامل” 6 التجرد التام، الموصل إلى التأله الكامل، كيف يُرزَق؟ يُرزق بتحصيل أعظم لذات النفس لديه، “ومن أعظم لذاتها، بمفارقة الجسم المحسوس، إن كانت تفارقه بالذات والعلاقة وبجميع الحالات” 7 فإن كان هذا التأله يحصل بعناء خلع الحس والجسم في الدنيا، تجردًا، فإنه يقع خالصًا من غير شقاء إذا ما انخلعت الروح عن الجسم بالموت، فيكون الداعي لألوهية روح الولي أقوى. فيُعبد، وتُصرف له العبادات التي تُصرف أصالة للإله، لاشتراكه حين موته مع الإله في علو التجرد المثالي.

صورة تخيلية لابن سينا
صورة تخيلية لابن سينا

تشريح على نص أفلوطين

يقول أفلوطين:

نص من أثيولوجيا أرسطو لأفلوطين، من ترجمة عبد المسيح بن ناعمة
نص من أثيولوجيا أرسطو لأفلوطين، من ترجمة عبد المسيح بن ناعمة

بناء على ما سبق: مهما بلغت من التخريج الفقهي، أو العقدي، أو تهوين الأمر من باب أن البلوى قد عمت به لدى كثير من العلماء، فأجازوه، واستحبوه، أو أي كان، سيبقى البحث التاريخي عائقًا كالشوكة في الحلق.

ليس هناك سليم قصد في الرجوع إلى الكتاب والسنة، يرضى معتقدًا -ولو نصره الألوف وقبع دهرًا طويلًا يُكَرَّرُ ليَعُمَّ حتى تخِفَّ وطأته على النفوس- كان منبعه الأول ما تُرجِمَ لوَثَنيٍّ لا يساوي كل علمِه في ميزان الشرع جناح بعوضة، بل لا يتفق ودين محمد في أصل واحد ولا فرع.

تمثال أفلوطين
تمثال أفلوطين

فلسفة الشرك، التي لعلها لم تبحث على نحو موسع، كما شُرحَ أعلاه، تكاد تكون مُختَصرةً من حيث المصدر، والتأطير الفلسفي، في هذه الصفحة من كتاب أثيولوجيا.

فالوليُّ المخالط للمحسوس، يعبر عن مغيثٍ إلهيِّ الذات، يُستغاث به، كما يُستغاث بالإله، لاشتراكه حين اطِّراح جسمه بعد الموت مع الإله في أعلى خصائصه، التي هي المعقولية، وهذا يدركه جيدًا إخوان الصفا، وابن عربي، والرازي في المطالب، والغزالي، وابن سينا.

فأفلوطين، حين خلعه لجسمه وبقاءه مجردًا عنه، رأى أنه صار جزءا من العالم الإلهي اللا جسماني، الذي يُستغاث به ويُغيث المضطر إذا دعاه. فأحجية التغطية الفقهية، والمذهبية، واستعمال أسماء بعض من لم يستوعب هذا من الفقهاء كسلطة دينية تهوِّنُ من شأن الأمر -مع أن هذا سلوك استنجادي، فالناقد لا يعتبر قول هؤلاء في هذا الباب بل يغلِّطُهم، ويشملهم نقده أصلًا- لقصة الولي الذي يُستغاث به بعد موت جسمه حيث تؤول نفسه للعالم الإلهي المغيث، كل ذلك محض انسياق لمقولة: هذا ما وجدنا عليه آباءنا.

فمن حيث قوله تعالى ﴿قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات﴾ لا يستقيم لكم الإتيان بدليل عقلي، إلا من داخل النسق الأفلوطيني، وهذا يرده العقل والمقاييس العقلية التي في القرآن؛ في كل فرع.

أما من حيث قوله تعالى ﴿ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين﴾ فهذا القرآن، لا تجد آية واحدة مما فيه، تقر هذا المذهب بوجه من الوجوه، إلا بتأويلها بتعسف، كما يفعل القرامطة.

المراجع

  1. تاسوعات أفلوطين، نقله إلى العربية عن الأصل اليوناني: فريد جبر، مراجعة: جيرار جهامي، سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى ١٩٩٧م، ج١، ص٥٩. ↩︎
  2. أثيولوجيا أرسطو، ص١ ↩︎
  3. أثيولوجيا أرسطو، ص٨. ↩︎
  4. فيدون، أفلاطون، ترجمة سامي النشار، وعباس الشربيني، الطبعة الثالثة، دار المعارف، ص٤٦. ↩︎
  5. جامع البدائع، يحوي عشرين رسالة لابن سينا، ص٣١. ↩︎
  6. جامع البدائع، يحوي عشرين رسالة لابن سينا، ص٣١. ↩︎
  7. جامع البدائع، يحوي عشرين رسالة لابن سينا، ص٣١. ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *