تماثيل الرموز الأموية، من زاوية ثانية…

د

صورة تمثال عبد الرحمن الداخل في إسبانيا

عندما تقرأ تاريخ العرب في إسبانيا لا تجد تاريخًا ورديًا، لم يدخلوها بالورود، ولا بالعطور، دخلوا لتأدية وظائف سياسيَّة، ذات طابع عسكري في أحيان كثيرة، دخلوها بدافع التوسُّع، كانوا إمبراطوريَّة، يفكرون بمنطق الدولة، الطَّاعة الكاملة، لا الاستقلال التَّام، كانوا دولةً تولَّدت عن قوة، لا عن ضعف، ولا داعي لذكر منجزات يزيد، ولا الحجَّاج وضبَّاطه، يكفي النظر في تاريخ ابن أبي عامر، أحد رجال الدولة الأموية، والحروب التي خاضها في الأندلس.

تدخل إسبانيا بعد سنوات طويلة، مرحلة التصفية للعرب المسلمين، وفق ما وسم بمحاكم التفتيش، وفرَّطت بهذا بكثير من العقول والمنجزات، لكن إمبراطوريَّة مرَّت من هنا، ولها منجز حضاري! فيما بعد شيَّدت إسبانيا تماثيلًا لشخصيَّات أمويَّة، دخلت بمنطق (استعماري) في نظر الإسبان، ومنها تمثال لعبد الرحمن الداخل، الذي يقع في جنوب إسبانيا، عند الشاطئ الذي دخل منه عبد الرحمن إلى الأندلس.

وشيَّدت تمثالًا للحكم، عبد الرحمن الناصر، وسميت شوارع بشوارع بني أمية، وطرق، وأنفاق، وشيِّد تمثالٌ لابن أبي عامر، المنصور، ولا يزال في قرطبة إلى اليوم، وهو الذي قيل فيه أنه غزا في إسبانيا أكثر من ستين غزوة لم يخسر في واحدة، كان غازيًا، لكنَّ الإسبان شيَّدوا له تمثالًا.

بالمقابل لم يشِّدوا لخصومهم من المناكير، الذين لم يذكروا في صفحات التاريخ بأي منجز سياسي، ممن لم يكن لهم أمام مدٍّ إمبراطوري سوى بضع محاولات لصدِّه، طواهم التاريخ العربي، وطواهم التاريخ الإسباني. كان تصالحًا معقولًا مع الذات.

يذكر عن مسلمة بن عبد الملك، أنه حاول فرض السيطرة على مدينة في أرمينيا، فاستعصى قومها، وقاوموا ببسالة، واعتصموا بجبل، فلم يطق مسلمة صعوده، لكنَّ الوظيفة العسكرية يجب أن تنفذ، وعدهم إن نزلوا قائلا “والله لن أقتل منكم رجلًا ولا كلبًا” فنزلوا، قتلهم جميعًا، وترك رجلا واحدًا وكلبًا.

كانوا فخذًا عنيدًا، يعيق وظائف الدولة، هي لم تكن عاطفيَّة، فقرَّرت إزالتهم، كيلا يستمرَّ عناد القبيلة أمام نفوذ الدَّولة، وهكذا جرى في مختلف الأصقاع، ولكن، لا نعرف عن الأرمن، ذكر شخص خيالي، يُذكر من باب “تعويض الشرف” على أنه أحد الذين قاوموا تلك الإمبراطورية، حينما جاءهم مَسلمة غازيًا، أو أنه انقلب عليهم، أو أذلهم، وقد كان ميكيافيلي يقول في الدرس السياسي:

“على الانسان أن لا يعلن عن حقيقة نواياه بل أن يعمل على تحقيق ما يرغب فيه بأي شكل من الأشكال وهذا يعني مثلًا، أن الانسان لا يحتاج عندما يطلب سلاحًا من آخر إلى أن يقول له: إنني أريد أن أقتلك به، طالما في مكنته أن يشبع رغبته عندما يصبح السلاح في يده”

يغلب الظن أن مونتسكيو كان صاحب أصول جرمانيَّة، ولكن، لم يمنعه ذلك عن الكتابة في تاريخ الرومان، مؤلفه (التأملات)، والذي انتصر فيه للرومان، ومنطقهم، كامبراطوريَّة ذات سياسة فذَّة، مقابل صعلكة الجرمان، كتب قائلًا:

“لا شيء في الحقيقة يناقض خطة الرومان أكثر من سياسة الجرمان، نقول بإيجاز إن الأولى تولَّدت عن قوة، والأخرى عن ضعف، طابع الأولى الطاعة الكاملة، سمة الأخرى الاستقلال التام، في البلاد التي استولت عليها الأمم الجرمانية كان الأمير سيدًا بالاسم فقط فيما السلطة الفعلية بيد صاحب الاقطاع، في الدولة الرومانية العلاقة معكوسة تمامًا”

وعندما كتب ميكيافيلي، وهو الفلورنسي الإيطالي، الروماني، كتابه المطارحات، أقرَّ بأن روما قد بناها إيناياس، وهو أحد اليونانيين الناجين من طروادة، لم يعتبر مشاركة إيناياس اليوناني في بناء روما مثار سخط على الهويَّة الرومانيَّة، الأمر يخضع لتصالح مع الذات قبل كل شيء، كان الرومان في تلك الفترة مجرد مدن بسيطة، مثل بساطة القبائل وحكمها، أمام هندسة فائقة كالتي جاء بها إيناياس من اليونان.

لكن قد تجد من لا منجز له، سوى التصلُّب كعود ضئيل أمام عصف دول لم يتسع غيرها في تاريخ الدول بمثل اتساعها، حتى انكسر، يوضع موضع البلاء عثرةً تنغِّص عليك يومك، بحركاته البهلوانيَّة، واستجدائه أمجادًا لا دولة رعتها ولا ربع دولة، حتى انتهى به الحال كتمثال في متحف النسيان، يقف شامخًا بلا رأس، تحت لافتة كتب عليها: “هنا يرقد من حاول أن يبدو عظيما، وفشل”.

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *