لا نكاد نجد شخصًا من جيل التسعينات إلا وتعلَّق في صغره بمشاهدة مسلسل باب الحارة عند كل رمضان، خصوصا الأجزاء الأولى منه، منذ سنة 2006 إلى 2009، ومع كون المسلسل قدم جوانب اجتماعية وأسرية عدة، إلا أن أغلب ما عمل على ترسيخه، تلك اللغة السياسيَّة التي طفحت في الأجزاء الأولى في سياق العمل السياسي المقاوم للمحتل، وأخذ رصيدًا لا بأس به في اللا وعي الجمعي لهذا الجيل، لغة سياسية مشتركة، ومنطق مشترك في قراءة الأحداث، وحتى تصوُّر موحَّد لأدوات العمل.
إن تشكَّل الوعي السياسي، وبالأخص مسألة “العمل” وتقييمه، بالنسبة لمواليد التسعينات لم يكن مصقولًا بالتجارب أو المطالعات، تثبت الانطباعات والتَّحليلات فضلا عن البنية الذهنية التي تتناول القضايا السياسية أن جيلًا بأكمله تشكلت أولى لبنات وعيه السياسي من خلال باب الحارة وبالأخص الشخصية النرجسية “معتز” والتي مثلَّ لها وائل شرف.

كانت التفاصيل التي تأتي لاحقا، والتي وضع هذا الجيل في واجهتها، تثبت أن لغته السياسية وفهمه لطبيعة العمل السياسي قد تم تقييده ضمن إطار شعارات جوفاء، وممارسات فردية تفتقر للقدرة على استيعاب كل تعقيد في المشهد السياسي.
كثيرة هي المشاهد التي رسَّخت في ذهن المتابع العربي، أن حارةً صغيرة، قليلة السكَّان تغلبت على قوات فرنسية مدججة بالسلاح، في مشاهد تفتقر إلى الواقعية وتُبالغ في التبسيط، ركَّزت الحبكة الدرامية على تمجيد الحصار والتجويع كرمز للصمود، دون تصوير التَّداعيات الحقيقية مثل المجاعة، الأوبئة، أو ندرة المياه، كما أغفلت الإشارة إلى الخطورة الاستراتيجية لمجازفة احتجاز ضباط فرنسيين، والتي قد تؤدي إلى تجويع الحارة وقصفها على رؤوس ساكنيها، وعوض تقديم وعي سياسي، تلقَّى المشاهد العربي جرعات عالية من الفخر بسلوك الهويات النرجسية.
وكانت لشخصية “معتز” وهي الشخصية المحبَّبة لجلِّ متابعي التِّسعينات، الشخصيِّة البطوليِّة التي تقدِم على قرارات جريئة ومتسرِّعة ولا تلقي اعتبارًا للنِّهايات قط؛ الحظ الوافر من العبث بمكوِّنات الهوية السياسية الحقة، شخصيَّة معتز التي كانت مفرطة في التفكير الفرداني، والتي تحوَّلت فيما بعد إلى أيقونة تحاكي بنية الهويات النرجسيَّة، المستخفَّة والمتجاهلة لكل تعقيد سياسي، شخصيَّة وليدة اللحظة، تعتمد في تحركاتها على مشاعر وليدة اللحظة، تتمظهر فيها كل مفاهيم الشَّجاعة والبطولة الكاريزميَّة والنِّكاية، على حساب مفاهيم السياسة والموازنة والتخطيط ونحو ذلك.

كان ذلك التشكل السَّردي والإعلامي في باب الحارة، من أبلغ ما ساهم في إعادة إنتاج خطاب سياسي يتَّسم بالتَّبسيطيَّة والانفصال عن ثقل وتعقيدات الواقع، ولم تكن شخصيَّات مثل “أبو شهاب” وابن أخته “معتز” سوى شخصيَّات تكرِّس على اختلاف مساهماتها السياسيَّة في المعارك البسيطة جل معاني الاختزاليَّة للعمل السِّياسي في أطر رمزيَّة فجَّة.
كانت شخصيَّات قائمة على مجرد الاستعراض البطولي والفردي في مواجهة القوى المتفوِّقة عسكريًا، وانعكس هذا التكرار الموازي لتدفق مشاعر جيَّاشة في المشاهِد، على وعي جيل بأكمله، وبات تناول طبيعة العمل السياسي من منطق يعاني تجزئة مفاهيمية، وبما أن الوسائل البدائية كانت لصالح “حارة الضبع” في مختلف المعارك، لم يحظ الحديث عن الوسيلة والظرف والامكانية بكبير اهتمام في ذهنية الجيل نفسه، بقدر ما تشكلت مفاهيمه السياسية في سياق الصراع مع العدو على مجرد الذوبان في المعارك الاستفزازية، والقيام بعمليات لحظية، منفصلة كل الانفصال عن التنسيق، والتخطيط لما بعد.
كانت شخصية “معتز” تعاني من تضخم مفرط في الأنا، البطل الذي لا يُهزم، الذي يحل كل نزاع، ولو كان من قبيل خلع باب الحارة، بالقوة اللحظية، طلقة على عسكري، ثم الانسحاب الفردي إلى البساتين، الشخصية التي عشقت العمل البطولي الفردي، على حساب بناء شبكة تحالفات، خطوط إمداد، مخزون مؤن، أدوية، أطباء، وتوازن قوى، وغير ذلك.
وهكذا نتج جيل بأكلمه، مهزوز من حيث هويَّته السياسية والعسكرية، هويَّة فردانية، ترى حلولها في مجرد العمل المجتزأ والمشاعر الوطنية الفورية التي تتبنَّى مظاهر إبراز القوة لحظيًا لإثبات الشَّجاعة، دون التفكير في الأثر طويل الأمد، تشكَّلت هويَّات سياسيَّة لجيل كامل، عمادها تغليب مشاعر البطولة غير محسوبة التَّكاليف، وكان نتيجة هذا في حارة الضبع، معاناة حادة من العزلة وتعرض المدنيين لعقاب جماعي، بل وإرغامهم على بيع بويتهم، وفي نهاية المطاف صار محور النصر في باب الحارة، أن يعود أهاليها إلى حالة ما قبل الحصار بيوم، وأضحت التضحية البطولية مجرد سلوك عابر وغير مثمر بالمرة.

اترك تعليقاً