دوما ما يتم طرح خلافة عمر، على أنها تمثل الحكم الإسلامي الذي يعبر عن امتداد للحكم النبوي، بخلاف خلافة معاوية، الذي جرى فيه تحويل الحكم إلى ملكي تكون المركزية فيه للقصر ورجاله، ويتم تداوله داخل السلالة الحاكمة حصرًا.
موضع الغفلة في البحث الجيوسياسي
الموضع الذي يغفل عنه أكثر من يبحث المسألة، هو أنه يجري التجرد عن مسائل السكوت عن إبداء الرأي فيما بين الصحابة، لكن في غير الاتجاه السليم، فيستحسن أكثر الناس أن يصرح بغلط نظام معاوية، في حين أن البحث السياسي الموضوعي، يبدأ اتجاهه لدى الباحث السياسي من دراسة الفوارق الجيوسياسية والاجتماعية والنفسية بين الفئة التي حكمها عمر، وبين الفئة التي حكمها معاوية، بين مكة والمدينة، وبين الشام.
أثر البحث الجيوسياسي
هذا المنهج في البحث السياسي، هو المعمول به اليوم في مثل الدراسة الجيوسياسية، فعند قراءة أسس الجيوبوليتيكا لأركسندر دوغين، تجده يبسط قواعد لقراءة التاريخ السياسي، ثم يقرأ أنظمة الحكم بصورة نسبية باعتبار الجغرافيا التي تنطبق عليها سياسة تلك الأنظمة المتنوعة، فروسيا الاتحادية مثلًا، بناء على كونها إقليما بريًا، لا يصلح لها سوى الحكم الشمولي، فمن القيصرية، إلى الشمولية السوفيتية، إلى روسيا بوتين الديكتاتور، بخلاف الأقاليم البحرية، فلم يكن – جيوسياسيا – يصلح لها سوى نمط الحكم المنفتح، والذي يجنح نحو التنوع والتعددية. فالقاعدة مستلة من التاريخ أساسا.

الأقاليم البحرية وضريبة التجارة
خذ مثلًا الأقاليم المطلة على البحر الأبيض، ذي الأقاليم، كان اقتصادها يقوم على التجارة البحرية التي تأتي من مختلف الدول، والتي تستجلب سيَّاحًا وتجارًا وبواخر تحمل سلعًا تعمل على تكييف حتى ثقافة سكان الاقليم المستورد، فمثل هذا كان يساهم في النزوح نحو مدنية البحر والمرسى، وإضافة لنشوء مساحة سياحية، يجري تبادل الثقافات مما يسمح لنشوء درجات حداثية ستؤدي إلى تكييف الحكم السياسي حسب النمط الاجتماعي، فالتعدد الثقافي، يخلق تعددا سياسيا. تبعا لوفود ثقافات متعددة، أدت لها طبيعة الأرض مختلطة بمستوى معين من التفكير الاقتصادي.

التعددية السياسية كنتاج لبحرية الأقاليم
ستكون ذي الأقاليم أكثر جدلًا حول الحكم الثابت، وأكثر قابلية للحكم المتغير عبر التعددية، فالقفز إلى نقاش الشمولية في منظومة الحكم بصورة الإدانة، دون نقاش نشوء التعددية الثقافية التي تحدث في التحولات الاجتماعية، والتي هي استجابة للتحولات الاقتصادية كتحول الإقليم البري إلى إقليم بحري، يقوم على اقتصاد الباخرة، هو اجتزاء سياسي، ويعبر عن قراءة منتكسة للتاريخ، بدون منهجية.
بين عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان
عندما نحاول قراءة التاريخ السياسي بين حكم عمر بن الخطاب، وبين معاوية بن أبي سفيان، مع إغفال المنهجية في القراءة، يحدث أن نعتبر حكم معاوية ذمًا له ولأهله، أمام حكم عمر، والحال أن العرب الذين حكمهم عمر، كانوا أصالة رافضين للحكم الملكي بناء على خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية أيضا، فالعرب رفضوا الملك عليهم دومًا، وفي هذا تاريخ مسطر، فمن زهير بن جذيمة، إلى وائل بن ربيعة، إلى التبع اليماني ولبيد.
الفرق بين عرب الجزيرة، وأهالي الشام عند الفتح
فالعرب لا يقبلون تربية الدجاج ولا بناء القصور للملوك لما فيه من انحناء الظهر، فمثل هذا الوضع الاجتماعي والثقافي يصلح له حاكم زاهد يفترش الحصير، والملك بينهم سيعبر عن خلق طبقية أرستقراطية يرفضها غالب الرعية، مما سيؤدي للتمرد.

بخلاف الشام، التي كانت قبل الإسلام -أصلا- مُتداولة من طرف الملوك، إلى حد الملك البزنطي، فتكوين الرعية اجتماعيا متماسكة بتماسك القصر الملكي، فمثل هذا النظام السياسي الذي جرى ترسيخه مرارا سيخلق اتساقا مع المنظومة الاجتماعية للرعية.
وبصورة متسقة لن يصلح لمجتمع يسوسه الملوك من القصور، أن يسوسه حاكم مثل عمر رضي الله عنه، لا يرتضي الحياة الملكية في القصور، فالمجتمع الذي جرى إخضاعه للسلطة بالملكية، حينما ترد عليه منظومة حكم مخالفة، سيجري انفلات الحُكم على أحر من الجمر تمردًا، فمهابة الملِك تبسط نفوذها في مجتمع هذا حاله بما لا يبسطه زهد من يمشي حافيًا ويفترش الحصير، ولو كان أعلى قائد لأقوى قوات مسلحة في المنطقة، وهذا كان يدركه عمر ابن الخطاب.
وثيقة لسياسيَّين بارعَين؛ ابن الخطاب وابن أبي سفيان
فحين قد عمر إلى الشام، جعل له معاوية موكبا عظيمًا لاستقباله، فقال عمر لمعاوية: لقد هممت أن امرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز. قال معاوية: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر:
ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا، إنه لرأي أريب 1
عمر بن الخطاب لمعاوية ابن أبي سفيان
أثر الجغرافية السياسية على نمط الحكم
أنظر كيف تعلق البحث منهجيًا بدراسة طبيعة سكان الأرض، وما يصلح لها من نظم حكمية، لا البكاء على أطلال الملكية، فهذا عمر بن الخطاب قطع بصحة النظام الذي أرساه معاوية إن صح أن طبع المجتمع لا يتقبل إلا مُلكًا مُهابًا، يجري فيه تجهيز مراسم ملكية في صورة موكب عظيم للقائد، مما هو مستقبح لدى العرب، وهذا لم يكن لازمًا في مثل العرب أيام الخلفاء الأربعة. فيأتي بعض من له رأي عاطفي، فيحكي أن نظام الحكم جرى تشويهه من طرف معاوية، حيث لم يتأس بالأربعة، فمثل هذا أعتبره رأيا سخيفا لا يحرك فكرًا في رأس، لخلوُّه عن البحث السياسي الموضوعي، فضلا عن استعمال أدوات حديثة في الدراسة السياسية.
المراجع
- سير أعلام النبلاء، 133/3 ↩︎
اترك تعليقاً