حول التعليم النظامي

د

ثانوية الأمير عبد القادر/ أول ثانوية في الجزائر بين عامي 1862م و1868م

مقدمة

رأيت الكثير من الامتعاض حول بعض النصوص والمواد في كثير من مقررات التعليم النظامي، لكن لنحاول تفكيك الواقع قليلًا، حتى لا نحكم بجرة قلم على ما لا نتصوره تصورًا كاملًا، ابتداء، حين بحث القضايا الفكرية، أو أي قضية متعلقة بالشريعة، لتسلم النتائج؛ على الباحث أن يخلع عقدتي (خوف/هجوم)، فما أورثه كثير من الإسلاميين من بؤس نظري ناتج عن “الخوف” أعدوا له عدة المستقبل؛ الهجوم على ما تورطوا في تكوينه، من قراءة عرجاء للواقع، مع تلفيق حلول لا تحل إشكال الواقع! وخذ على سبيل المثال قضية إقحام مواد مخالفة للعقيدة في مقاييس التعليم في مختلف المستويات، فإن التعامل الشهير تجاه ذي القضية لا تشم فيه رائحة الواقعية، فضلا عن تقديم حلول مبنية عن علم، فضلا عن تقديم أجوبة على الإيرادات!

رأسمالية التعليم

التعليم النظامي العالمي أو العربي مجردًا عن النظر إليه بمعيار شرعي، يعبر عن كارثة ليست بالهينة، وقد كان علم الاجتماع يوجه نقدًا دقيقا لنظم التعليم التي تسبح في فلك الرأسمالية، كذلك التحليل الذي يوضح أن “اللامبالاة تجاه عمل معين هو أمر يناسب المجتمع الذي ينتقل فيه الأفراد بسهولة من نوع معيَّن من العمل إلى نوع آخر، والذي يكون فيه هذا العمل عرضيا للأفراد ومن ثم غير ذي أهمية لهم، وهكذا، ففي نظام مثل هذا، فإن الوسائل التي يراد من خلالها الوصول إلى هذه الأهداف صارت موحدة، بذلك يبدو العمل ليس من حيث فئاته ولكن من حيث واقع ذاته، مجرد وسيلة لإنتاج الثروة بشكل عام” 1

فالنظم الرأسمالية، في شقها التعليم النظامي، لا تنفك عن وأد الروح العلمية في الدارس، ولهذا تتوحد كافة فروع التعليم أيًا كانت المادة المقدمة، لتكوِّن لدى المتعلم “مرحلة شرطية” لمجرد إنتاج مال/وظيفة، وفقط! فـ“إن العمل المنزوع الحيوية، الذي يراه العمال باعتباره محض آلية لتأمين وجودهم نفسه، هو الوسيلة التي يضمن فيها رأس المال نموه” 2 وذلك يكون بـ “جعل العمال غير مبالين بالعمل ذاته… يمكن للناس الآن إنتاج الوجبات على خطوط الانتاج، من دون أن تكون لهم معرفة بالطبخ في البيت، إعطاء تعليمات على الهاتف للعملاء، رغم أنهم هم أنفسهم لا يفهمونها، وبيع كتب أو صحف هم أصلا لا يقرأونها” 3

صورة للورنس بيتر عالم النفس
صورة للورنس بيتر عالم النفس

تدجين المُعلّم

هذه المنظومة لا تستهدف المتعلم فحسب، بل هي أيضا تساهم في انحطاط المعلِّم، بحيث يتحول من “معلم حقيقي” إلى “معلم لغاية إنتاج ثروة فقط”، وقد تنبه لورنس بيتر وريموند هال لعملية التدجين التي يلاقيها المعلم في سبيل الرأسمال، فـ “المؤسسات التدريسية التي تقوم المدارس فيها بفصل المدرسين الذين يضربون صفحا عن الجداول ولا يعرفون شيئا عن موضوع المقرر الدراسي، هي على المنوال ذاته، سوف تقوم أيضا بفصل المدرّس المتمرد التي يغير من بروتوكولات التدريس بعمق بحيث يوصل التلاميذ الذين يعانون من صعوبات التعلم إلى مستوى يعادل ذاك الخاص بأفضل التلاميذ في المدرسة، وبنفس الطريقة سوف تقوم المدارس كذلك بفصل المدرس الذي يساعد طلبته على إنجاز عمل سنتين أو ثلاث خلال سنة واحدة فقط” 4

صورة لريموند هال
صورة لريموند هال

الأمي الثانوي

وهذا النمط هو ما يطلق عليه هانز ماجنوس بتوليد “الأمي الثانوي” فالنظام يتخوَّف من جعل المدرّس أمام “مشكلة” التعامل مع “متعلمين” غطوا المقرر الدراسي سلفا، فنحن أمام مشكلة تكوين أفراد “مكونين من معارف عملية، من دون أن تقودهم معارفهم هذه إلى المساءلة عما تستند إليه هذه المعارف من ركائز إيديولوجية” 5 فالإشكالية التي تُطرح، هي أننا أمام جزء من التعليم يبث فكرة مخالفة، فإن هذا مجرد جزء من التعليم الذي هو جزء من الواقع!

فجزء آخر منه يقول: إن التعليم مجرد وسيلة لتحصيل وظيفة، ولا يقدم المعلومات ولا الركائز ولا العقل النقدي ولا تحفيز البواعث النفسية التي تبني الكفاءة في المتعلم، فضلًا عن جعل النظرية تطبيقًا. وجزء آخر يقول: النظام اليوم تركيبته مبنية على جعل “المال” مشروطا بتوظيف، وجعل التوظيف مشروطًا بشهادة، وجعل الشهادة مشروطة بتعليم. مع ما يلاقيه الأب من وطأة رأسمالية تكرس الفقر الذي لا يسمح بانتشار ثقافة المدارس الخاصة، فإن هذه أيضا جزئية ضخمة من الإشكال.

صورة لهانز ماجنوس
صورة لهانز ماجنوس

ابن تيمية مستشرفا

كان لابن تيمية كلمة مهمة في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يقول: ”إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا: لم يجز أن يُؤمروا بمعروف ولا أن يُنهوا عن منكر. بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه.

بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نهي عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا“ 6

ركاكة طرح من يجنّب الناشئين عن التعليم

أنظر جيدًا في الذهنية التي يتعامل بها ابن تيمية في التفريق بين جهة العين، وبين جهة النوع، وقارنها مع كثير من الأحكام التي تصدر عن شخصيات إسلامية تنهى عن التعليم! فهل وقع البحث في المنكر الذي انطوت عليه المقررات الدراسية ومقارنته بما ليس منكرًا، فأيهما أغلب؟ إن كثير من المقاييس تدرس علوم لا مجال لإقحام المنكر عقديًا فيها، كالفيزياء، العلوم الطبيعية، الكيمياء، التاريخ، الجغرافيا، ونحو ذلك، ومع ما سبق من أن النمط الدراسي في ذي الأنظمة لا يصدّر معرفة بقدر ما يصدّر ما دونها.

فإن عصر التحصيل المعرفي في المدارس قد باد، فالدراسة غايتها الوحيدة هي النجاح لتحصيل ثروة، وهذا ما ترسّخه المنظومة أصلا! فلا ينبغي التعامل مع القضية بصورة مثالية جدًا على أن كل معرفة تطرح في المؤسسات إنما سبيلها التلقي الذي يؤثر في الدارس أصلا، فضلا عن التعامل مع الواقع بعقلية أصولية، فهل أمنت الفتنة العقدية أم هي محتملة فقط؟ وما مدى اعتبار هذا فيما عمت به البلوى؟

ثم هل هنالك دراسة جدوى، أم أن الحكم بالمنع غير مدروس العاقبة؟ من يمنع بناء على الموروث من ذهنية كثير من الإسلاميين؛ هل تعي أنك تحكم الآن؟ لا يوجد قاعدة فقهية واحدة، ولا دلالة على دراسة جادة للواقع؛ منكره ومعروفه ومباحه، ولا تعامل بعقلية أصولية مسافة متر. ومع ذلك يتم التعامل بالرأي المحض بناء على غضب تجاه خمس نصوص من بين ١٠٠٠ نص! هذه الذهنية هي ذهنية “المفكر الإسلامي” الذي يحكم بناء على تحليله الخاص بأدواته الفكرية الخاصة وانفعالاته، أما الحكم الشرعي أو التحليل الصحيح للواقع فليس هذا سبيله.

المراجع

  1. Karl Marx, A Contribution to the critique of Economy, p13. ↩︎
  2. نظام التفاهة، آلان دونو، ترجمة وتعليق مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، بيروت– لبنان، الطبعة الأولى ٢٠٢٠م، ص٧٢. ↩︎
  3. المرجع السابق، آلان دونو، ص٧٢. ↩︎
  4. Laurence J. Peter and ramond hull, the peter principale: why Things Always Go worng, p45. ↩︎
  5. نظام التفاهة، مرجع سابقا، ص٧٦. ↩︎
  6. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية، ص ١٣. ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *