عبد الله الخليفي استمرار لأيديولوجيا ربيع المدخلي الناشئة في أفغانستان

د

صورة قناة عبد الله الخليفي

إن الشروع في دراسة الخلفية التي ساهمت في تشكيل شخصية عبد الله الخليفي، لا بد أن يتقدمها شرح للأداة المعتمدة في هذا المقال، فلا خلاف أن عملية الحفر التاريخي، هي من أبلغ أدوات ضبط أي تيار بردِّه إلى أصوله التي ساهمت في تكوينه بشكله النهائي، وقد كان النُقاد عبر التاريخ حريصين على مثل هذه الأدوات، بل ويعيرونها أبلغ درجات الاهتمام، ذلك لأن عملية الاستقصاء عندما يتعلق الأمر بتاريخ الأفكار والأيديولوجيات، تقدم مادة خصبة للتحليل الذي يشكل منطقا تفسيريًا لنشوء ذلك التيار.

وعند البحث في جذور عبد الله الخليفي، نجد معطيات عدة، ووثائق وكتابات، وتاريخ شفوي متشعب، يعبر كل ذلك عن أيديولوجيا حديثة النشأة، تنكشف معالمها بتسليط الضوء على جانب من الصراعات التي نشأت في أفغانستان خلال وبعد الغزو السوفييتي، وهي تطرح افتراضًا حول الأصول الفكرية لعبد الله الخليفي، الأمر الذي أفسح المجال أمام هذه الدراسة لتقديم عمل استقصائي، يهدف إلى كشف السلف الحقيقي، والذي مثَّل الرحم الذي نتجت عنه شخصية عبد الله الخليفي. وقد تشعبت تلك المعطيات بشكل واسع، لكنها تدور على نحو أساسي حول عدة نقاط:

  • الحركات الإسلامية في أفغانستان، وانتمائها الحنفي.
  • إمارة كونر الأفغانية بزعامة جميل الرحمن الأفغاني، وصراعها مع الأحناف.
  • ربيع المدخلي الذي كان قياديًا ومناصرًا في حركة كونر.
  • مذهب أبي حنيفة بصفته مذهب عموم الأفغان، ومجمل الحركات الإسلامية الأفغانيّة.
  • عبد الله الخليفي الذي كان تلميذًا لربيع المدخلي أكثر من عشر سنوات.
  • عبد الله الخليفي واشتهاره بالدعوة إلى إسقاط أبي حنيفة ومذهبه.

تقدم هذه الدراسة تفسيرًا منطقيًا لتقديم هذه المعطيات في قالبها المتسق، بتسليط الضوء على المسار الأيديولوجي الجامع بينها، تبعا لتوالي حلقات الوصل بين كل شخصية وأخرى، فعبد الله الخليفي كان تلميذًا لدى ربيع المدخلي لأكثر من عشر سنوات، كما كان من المشيدين بجميل الرحمن، وربيع المدخلي كان مناصرًا لحركة كونر، بزعامة جميل الرحمن الذي حاول جاهدًا تقويض شرعية الحركات الإسلامية المنافسة له في أفغانستان، بتقويض انتماءها الفقهي، الذي كان يتمثل في المذهب الحنفي، المذهب الذي صار الخليفي فيما بعد من أبرز الداعين إلى إسقاطه.

مقدمة في المنهج (الحفر التاريخي أداة تفسير)

لقد قدم كثير من النقاد تفسيرات معتمدة على الحفر التاريخي في الجذور، وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه لما فتح بيت المقدس قال لكعب: أين ترى أن أبني مصلى للمسلمين أمام الصخرة أو خلفها؟ قال: خلفها. فقال له عمر: يا ابن اليهود خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها 1 وعند تعليق ابن تيمية على الواقعة وصف كلام عمر بقوله “هذا من باب السياسات المحكمة” 2 يقصد بذلك تفسير عمر لسلوك كعب، بناء على خلفيته التاريخية، وقد كان كعب يهوديًا، قبل أن يسلم في خلافة أبي بكر.

وإن كان الوعي البشري يطمح دائما إلى إعادة البناء من جديد، إلا أنَّ أبرز التيارات المتحورة، تُغفل كثيرًا من المنعطفات التي تلقتها أيام النشأة ضمن التيار الأول، فتعيد إنتاج رموزها، وترديد دعاياتها، بتغيير مجرد زاوية النظر، الأمر الذي يثبت أمام البحث الموضوعي بقاء الخط الأيديولوجيّ ممتدًا من دون انكسار.

على سبيل المثال، كان فشل ثورة جهم بن صفوان، قد حوَّل المعتزلة إلى إعادة النظر في البنية النظرية التي صاروا لها، لقد صارت الجهمية في تلك الأحايين، وصمة عار على من يعتزي إليها، فمن ينتسب إلى ثورة فاشلة؟ أو إلى شخصية أجمع الناس على تهميشها؟ أظهرت المعتزلة البُعد الكلي عن جهم بن صفوان، لكن لم يمنع ذلك أن يصرح أهل الحديث بمؤدى نظرهم لاستمرار الأيديولوجيا الجهمية ضمن التيار المتحوِّر (المعتزلة).

فالمعتزلة أضحت بنظر أهل الحديث مجرد فرع، منبثق عن أصول جهم بن صفوان، فنعتوهم بأنهم (جهمية)، المنهج الذي امتد وصولا إلى ابن تيمية في نعته للرازي وهو أشعري، حين رد على كتابه (تأسيس التقديس) بعنوان (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية).

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية

وعندما تكلم ابن تيمية عن مسألةٍ للرازي، قال “صنف ‌الرازي كتابه على طريقتهم […] اليونانيين وأرسطو وأمثاله” 3 وقال في موضع آخر “الرازي يثبت في كتبه، ما يوافق فيه سلفه أرسطو” 4 فهو يعتبره بمثابة السلف له، مع علمه بأن الرازي يصنف مقالة أرسطو ضمن مقالات الدهرية 5. ولم يكن هذا مانعًا للبحث التاريخيَّ في المقولات، من كشف حقيقة أن الرازي كان نتاج مرحلة السطوة لمخرجات الفلسفة الأرسطية، التي نقل الجهمية ترسانتها.

مع أن المعتزلة، والأشعرية، على السواء، يكفرون جهم بن صفوان في دعايتهم الرسمية. وقد قال عبد الجبار المعتزلي “كفّروه” 6 يقصد المعتزلة عن جهم، وقال عبد القاهر البغدادي “الجهمية اتباع ‌جهم ‌بن ‌صفوان […] أكفره أصحابنا في جميع ضلالاته” 7 يقصد بأصحابه: الأشعرية.

من الأدوات التفسيرية التي يسلِّم بها عبد الله الخليفي

وعند كلام عبد الله الخليفي عن أثر علم الكلام في اليهود، في مقال له بعنوان (أثر الجهمية وعلم الكلام على متأخري اليهود) ذكر موسى بن ميمون، على أنه “كان يهودياً ثم أسلم مع أشعرية المغرب ثم عاد لليهودية ولحق بالعبيديين […] ما انتهت القصة هنا بل بدأت، هذا الرجل نقل بعض الأفكار الكلامية لليهودية، من أهمها فكرة تأويل النصوص” 8

الشاهد، أن عبد الله الخليفي، ادعى على موسى بن ميمون في إحدى محطات حياته التأثر بالأشعرية، واعتبر الخليفي أن انتقاله من الأشعرية إلى اليهودية من جديد، بداية قصته، فقد صار إلى تأويل النصوص، لخلفيته الأشعرية، التي كونها إبان صحبته لأشاعرة المغرب. فنشأة الشخص ضمن تيار فكري، وتلقيه لأصوله بشكل مدرسي، يضفي في الدراسات التاريخية، ودراسة منعطفات التأثر والتأثير، مادة خصبة للحفر عن الأصول الأيديولوجية لهذا الشخص، وضبطها بشواهدها في قالبها الواقعي. فإن الخليفي، يسلم بصحة هذه الأداة في تحليل الوقائع وتفسيرها.

إن هذه المقدمة، كانت ضروريةً لتسويغ الأداة المعتمدة في كتابة هذا المقال، أعني أداة الاستقصاء، بالبحث عن الوقائع والوثائق التي تكشف جوانب اتصال المسار الأيديولوجي بين عبد الله الخليفي وحقبة الصراع بين الحركات الإسلامية في أفغانستان وما خلَّفته من ترسانة سياسية ونظرية، رغم أن التيار المتحور (الخليفي كما بين أيدينا) قد يظهر مبدأ المخالفة الصورية للتيار السابق (ربيع المدخلي، مناصر لحركة كونر)، في شكل التصريح بالمخالفة الجذرية، ما يجعل وظيفة اختبار هذا التصريح، وعرضه على الأدلة، وظيفة الدراسة الاستقصائية التي نباشرها.

وعند الكلام عن عبد الله الخليفي، لا يعتري البحث تلك الصعوبة التي عاناها ابن تيمية وهو يبحث في جذور الفرق والمقالات، فالشخصية التي بين أيدينا أبسط من تلك الفرق من حيث النشأة والتكوين، كما أن الفترة التي بينها وبين جذورها تقل عن ثلاثين سنة، وتتلمذُ الخليفي على ربيع المدخلي، الذي نقل إليه تلك الجذور أيام نشأته، دامت أكثر من عشر سنين، فهذه الشخصيات والحركات معاصرة، الأمر الذي يسهل تشكيل التصور الواقعي حولها لتعدد الشواهد، وقرب العهد بها.

أفغانستان قبل الإسلاميين

كان الاتحاد السوفييتي من أول من اعترف بدولة أفغانستان، سنة 1919م، وكانت أفغانستان آنذاك، من أوائل الدول التي اعترفت بالاتحاد السوفييتي، سنة 1921م، الأمر الذي جعل العلاقات بين البلدين متماسكة، وأولى الاتحاد اهتماما ظاهرا بأفغانستان لما تميزت به من تموضع جيوسياسي واستراتيجي في آسيا الوسطى، بحدود شمالية مع الاتحاد، وغربية مع إيران، وشرقية مع باكستان والصين.

كانت أفغانستان في السبعينات، جمهورية تحررية، يقودها داوود خان (1978م) والذي كانت علاقاته وثيقة مع السوفييت، فصار الاتحاد منخرطا في حركة بناء اقتصاد البلاد، بإرسال مئات المستشارين، وتمويل الاقتصاد الأفغاني سنة 1954م، بمساعدات بلغت 3,5 مليون دولار. 9

وفي سنة 1953م، تطورت العلاقات بين البلدين، بشكل أعمق، وبزيارة خروتشوف سنة 1955م، تم عقد اتفاقية تتضمن تقديم قرض قدره 100 مليون دولار من طرف الاتحاد لأفغانستان، وبهذا زاد اعتماد أفغانستان في مجال التسليح على الاتحاد، من الصفر سنة 1951م، إلى 100% سنة 1960 10

وفي سنة 1965م قام جيولوجيون سوفييت، بإنشاء مشروع استثمار الغاز الطبيعي من الترسبات المكتشفة في أفغانستان، وقد صدرت الأخيرة، كميات كبيرة منه إلى الاتحاد، إضافة إلى إنشاء حقل مخصبات النيتروجين، وبلغت مساعدات السوفييت لأفغانستان خلال عشر سنوات 750 مليون دولار.

صورة لكابول، العاصمة الأفغانية، 1970
صورة لكابول، العاصمة الأفغانية، 1970

وبعد انقلاب الشيوعيين على السلطة الأفغانية في نيسان 1978م، بزعامة نور محمد تراقي، صعب على واشنطن أن تتعايش مع الوضع الجديد، والملاحظ، أن سنة الانقلاب الشيوعي في أفغانستان هي نفس السنة التي نشبت فيها الثورة الإيرانية، التي تزعمها الخميني في 1978م.

الغزو السوفييتي وثورة الإسلاميين في أفغانستان

سنة 1979م نشبت الثورة الإسلامية في أفغانستان ضد الحكومة الجديدة، وازدادت قوتها لدرجة الإغارة على بعض المدن القريبة من العاصمة كابول بحوالي 50 كيلو، وجراء ذلك قصفت الحكومة كل القرى التي كانت تتوقع منها تقديم يد العون للثوار الإسلاميين، وانضم في نهاية 1979 ما يقارب من الألف جندي إلى صفوف الثوار 11

كان أحد أبرز أهداف الغزو السوفييتي، احتلال الممرات التي تربط أفغانستان بالدول المجاورة، لغرض قطع المعونات عن الثوار الإسلاميين وتعطيل مجموعاتهم، وبقيت الحدود الأفغانية الإيرانية مشتعلة في إطار تقديم المساعدة للثوار الأفغان 12

وفي مايو 1979م أظهر الاستخبارات السوفييتية الاستعداد، حيث صار الوضع في المحافظات الأفغانية يشكل خطرًا على مصالح الاتحاد، خاصة المحافظات القريبة من الحدود الباكستانية، حيث كانت ملجأ للمقاتلين الإسلاميين، وفي تلك المرحلة بدأت الحرب باجتذاب أنصار جدد للحركات الإسلامية.

وفي عهد الجنرال ضياء الحق قدمت باكستان التي كانت تخشى المد الشيوعي القادم من أفغانستان دعمها للإسلاميين الأفغان، وكان حكمتيار يدها النافذة داخل أفغانستان آنذاك خاصة بعد أن قتل والده واثنان من إخوته في سجون كابول بعد مجيء الشيوعيين إلى السلطة في إبريل 1978.

image 2024 07 01 233640888
صورة لقلب الدين حكمتيار (على اليمين) أيام الحرب في أفغانستان

وكان من بين أبرز الأحزاب النشطة في أفغانستان حينها، حزب حكمتيار، المسمى بالحزب الإسلامي، وهو الأبرز من حيث أنصاره وقوة تسلُّحه، وكان “حكمتيار يتخذ من مدينة بيشاور الباكستانية مقرا لمعسكره وقيادته، وتلقى دعمًا من من الولايات المتحدة وباكستان والسعودية” 13

التحالفات الأجنبية مع الحركات الإسلامية في أفغانستان

وخلال الغزو السوفييتي في 1979م، صارت أفغانستان في حالة حرب أهلية شاملة، وكان الحزب الإسلامي لحكمتيار والذي تأسس “سنة 1975م قد انبثق عن الانتماء الأولي لحكمتيار مع الإخوان المسلمين” 14 يعتمد على الأيديولوجيا الإخوانية المتمحورة حول كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، إضافة إلى أنه حزب يعتمد في أصوله وفروعه على المذهب الحنفي، إذ كانت أفغانستان “بلاد أبي حنيفة بلا منازع” 15

وفي سياق التحالف بين الغرب والإسلاميين في أفغانستان “ألقت مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء في 18 ديسمبر، خطابًا رئيسًا في رابطة السياسة الخارجية، بعنوان: الغرب والعالم اليوم، دافعت فيه بقوة عن الإسلام بديلًا الماركسية. وفي زيارة لاحقة لمعسكر للاجئين قرب حدود أفغانستان، أخبرت تاتشر المحيطين بها: إنكم تتركون بلدًا كافرًا لأنكم رفضتم أن تعيشوا في ظل نظام شيوعي كافر يحاول تدمير دينكم” 16 الأمر الذي أنشأ السوفييت بصدده كاريكاتور حول علاقة الدولار الأمريكي بالجهاديين في أفغانستان:

att.dRUdOuXrECuyUe9YDr1m jSuOgJHfgW5GFbPDwacc2w 1
كاريكاتير من إنتاج المؤسسة الدعائية السوفييتية، للتدليل على استغلال الولايات المتحدة الأمريكية
image 2024 06 29 183453859

فيما يتعلق بالحزب الإسلامي، فقد “مدت بريطانيا يد المساعدة إلى حكمتيار، اجتمع بمسؤولي وزارة الخارجية في لندن في 1988، وذهبت معظم المعونة الأمريكية إليه أي 600 مليون دولار على الأقل” 17 كتب Jim Burroughs بعنوان Blood on the Lens A Filmmaker’s Quest for Truth in Afghanistan “في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات سافر حكمتيار إلى المملكة العربية السعودية ووجد دعما لأصوليته بين الأمراء الوهابيين، ثم عاد بتمويل سعودي” 18

لقد شرعت السعودية بعد الثورة الإيرانية، وبعد استيلاء جماعة جهيمان على الحرم، بمضاعفة مظاهر التقوى العامة، وتم إجلاء المعارضين المحتملين إلى أفغانستان في سياق الجهاد ضد السوفييت. وفي الثمانينات أحل الملك فهد عبارة (خادم الحرمين) محل عبارة (صاحب الجلالة)، وفي سياق المنافسة الشيعية بقيادة إيران، قامت الرياض بتصدير نظرة توحي بوفاق أيديولوجي مع الحركات الأفغانية ضد السوفييت من جهة وضد الثورة الإيرانية من جهة ثانية. واتجهت تمويلات البنوك السعودية في أواخر السبعينات إلى الحركات الإسلامية في أفغانستان 19 وفي سنة 1979م طُبع في السعودية كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، الكتاب الذي مثل البنية الأيديولوجية للحركات الأفغانية.

image 61
الطبعة السعودية لمعالم في الطريق

جميل الرحمن زعيم كونر، وبداية الصراع مع الأحناف

image 2024 06 29 191843584

ولد جميل الرحمن سنة 1939م في أفغانستان، وكان حنفيًا ماتوريديًا، ثم انضم إلى حزب حكمتيار، الذي كان إخوانيًا حنفيًا، يقول بارنيت ر. روبن في كتابه Afghanistan in the Post-Cold War Era “كان جميل الرحمن، قد تلقى تعليمه في بنجبير من قبيلة صافي من البشتون، وقد انضم في الأصل إلى حكمتيار” 20 وانضمام جميل الرحمن من حيث الأصل إلى حزب حكمتيار، يدلنا على الأيديولوجيا التي كان يؤمن بها في صفوف الحزب، فإن حكمتيار كان حنفيًا، وكان “يعتمد في تكوين طليعة المجاهدين على كتب سيد قطب” 21

لقد “انفصل جميل الرحمن عن حكمتيار وحزبه سنة 1985م” 22 وبالتالي فإن إنفصاله عن الحركات الإسلامية الأفغانية، والتي كانت تدين بالمذهب الحنفي، تلاه تأسيس جميل لإمارة إسلامية منافسة، وهي إمارة كونر، والتي استحوذت فيما بعد على كل التمويل السعودي، وكان “من خصومهم الحزب الإسلامي لحكمتيار، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين كغيره مثل رباني وسياف ويونس خالص، ممن وصفوا بأنهم تربوا على كتب سيد قطب والمودودي، وجرى في الختام منع جميل الرحمن لحزب حكمتيار من الوجود في كونر” 23

وحين سألوا جميل الرحمن عن الدعم السعودي لإمارته في كونر قال: “أما الحكومة السعودية، فإن اعتبرت لجنة الإغاثة السعودية من الجهات الرسمية الحكومية، فنحن نأخذ منها المساعدات […] فنحن نأخذ من السعودية ما ذكرناه” 24

image 2024 07 01 005909130
صورة لجميل الرحمن

في تلك السنوات، كان على جميع معسكرات التدريب أن تكون حذرة بشأن الإساءة إلى المملكة العربية السعودية، وعليه فإن “المخابرات السعودية تمكنت من إنشاء معسكرات كانت تحت سيطرتها المباشرة وباشرت تمويلها، وهي الظاهرة التي ازدادت أهمية بعد أن أصبحت جماعة جميل الرحمن السلفية تحت سيطرتها. ولم يتم إجراء سوى القليل من التدريب العسكري الفعلي في معسكرات كونر هذه، بل تم إجراء دروس أيديولوجية حول البدع الحنفية الأفغانية25 وبالتالي فقدت الجماعات الأفغانية الحنفية كل ذلك التمويل الهائل، جاء في كتاب شاهد على الوضع الأفغاني “جميل الرحمن استطاع أن يسحب بساط الاهتمام السعودي منهم” 26

كان على رأس المخابرات السعودية خلال السنوات (1977م-2001م) الأمير تركي الفيصل، وفي لقاء له في برنامج الصندوق الأسود، أوضح تركي إدراك جهاز المخابرات للفوارق الأيديولوجية بين السعودية ومختلف الحركات الإسلامية المتقاتلة في أفغانستان، والتي كانت تتبنى المذهب الحنفي، يقول تركي الفيصل:

تفريغ مقطع تركي الفيصل
تركي الفيصل عن الحركات الإسلامية الحنفية في أفغانستان

في كتاب [قصة الجهاديين العرب] يحكي كريم الطويل “خرج جميل الرحمن على حكمتيار وأقام راية لنفسه، على أساس أنه سلفي، وأن الأفغان مبتدعة وأحناف، ووقعت معارك طاحنة في كونار التي تقع شرق أفغانستان بين حكمتيار وبين أتباعه الذين صاروا سلفيين وهابيين” 28 يقصد جماعة جميل الرحمن.

يعبر كريم الطويل عن النزاع بأنه معارك [طاحنة] قامت على أيديولوجية بديلة، انتهجها جميل الرحمن، وتمحورت حول (السلفية) وجعلها مقابل (الأحناف المبتدعة). وهذا ما يتسق مع تصريح تركي الفيصل، الذي قال بأن السعودية لم تقدم دعمًا لأي معاهد دينية حنفية.

تحت عنوان [سياسة المعارضة الدينية في المملكة العربية السعودية المعاصرة] كتب ستيفان لاكروا حول جميل الرحمن، وبداية صراعه ضد الأحناف:

image 3

“وجدت سلطات المملكة السعودية استياء شديدًا، وهذا التقارب بين الموقف غير الرسمي للنظام والخط الذي اتخذه أهل الحديث، مكن حركة كونر من العودة إلى تأييد السعودية. وبدأت جماعة أهل الحديث عملية إعادة التأهيل، وتم وصلهم بالمنابر ومواقع النفوذ، في حين دخلت جماعة أهل الحديث وعلى رأسها اليمني مقبل الوادعي، في نوع من الهدنة المؤقتة مع الحكومة السعودية. لكن التعاون بين الجانبين لم يتوقف عند هذا الحد.

كان لأهل الحديث اتصالات طويلة الأمد في أفغانستان مع شيخ من كونر، درس مع علماء أهل الحديث في باكستان وكان يستخدم الاسم المستعار جميل الرحمن (اسمه الحقيقي مولوي حسين) اشتهر بميوله السلفية. وهدف إلى تنقية الإسلام المحلي من البدع المذمومة المرتبطة بالصوفية والفقه الحنفي، ومع بداية الصراع الأفغاني، انضم جميل إلى الحزب الإسلامي، لقلب الدين حكمتيار، حيث كان مسؤولاً عن التعليم.

وفي النصف الثاني من الثمانينات قرر جميل الرحمن إعلان استقلاله، وبعض التجار الخليجيين، سعوديين وكويتيين، جاءوا لرؤيته وقالوا له: شيخ جميل الرحمن، أنت سلفي، كيف تقاتل مع حكمتيار؟ كيف تجاهد تحت رايته؟ ثم وعدوه بالمال والدعم على أن يترك الحزب ويشكل قيادة مستقلة.

إن الدعم الذي تلقاه جميل الرحمن من المملكة العربية السعودية منحه موارد كبيرة. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1988 حرر كامل محافظة كونار، التي أصبحت بعد ذلك “إمارة سلفية” حقيقية. وبعد شهرين، في ديسمبر/كانون الأول 1988، بدأ في نشر مجلة المجاهد، التي كان لها عدد كبير من القراء في المملكة العربية السعودية.

أصبحت جماعة كونر بزعامة جميل الرحمن والذين وصفهم مقبل الوادعي: بـأهل الحديث الأفغان، تابعين بشكل غير رسميّ للحكومة السعودية على الأراضي الأفغانية. وبالإضافة إلى التبرعات الوفيرة من التجار الأثرياء المقربين من أهل الحديث أو العائلة المالكة، فقد تلقت الجماعة تأييدًا من زعماء أهل الحديث الموالين مثل ربيع المدخلي، وهو ما قد يبدو للوهلة الأولى أكثر إثارة للدهشة، كما تلقت تأييدًا من مقبل الوادعي29

إن الاهتمام الذي أبداه جميل الرحمن زعيم كونر، بتقويض المذهب الحنفي في أفغانستان، لم يكن اعتباطيا من وجهة نظر سياسية، فحزب حكمتيار الذي صار عدوًا لجميل الرحمن، لن تُكسر شرعيته بدون التطلع لكسر المذهب الحنفي والحط من شأن إمامه، وهذا ما يوجه دفة البحث نحو استقصاء دور ربيع المدخلي ومقبل بن هادي الوادعي في هذا الصراع.

ربيع المدخلي ومقبل الوادعي نحو تقويض المذهب الحنفي في أفغانستان

بعد خروج السوفييت من أفغانستان في 1989م، التحق ربيع المدخلي بجماعة جميل الرحمن في كونر، وفي مجلة المجاهد، التابعة للإمارة، جرى تعريف ربيع المدخلي بأنه “عالم سلفي معروف بعلمه وغيرته على السنة […] ألا وهو الشيخ ربيع بن هادي المدخلي أثابه الله” 30 وهذا كان سنة 1989م.

image 2024 07 01 154509575
تزكية مجلة المجاهد، لربيع المدخلي، وكتابته فيها

وفي تسجيل صوتي لربيع المدخلي، بعنوان (مناظرة الشيخ ربيع المدخلي في أفغانستان) يقول المدخلي عن جميل الرحمن “هو سلفي” وعن بقية الحركات الإسلامية في أفغانستان “حتى من يقول آمين ما يستطيع، حاربوه، من يرفع يديه في التكبير، يحاربونه” يقصد بهذا؛ منع بقية الحركات لهم من الصلاة بهيأة تخالف المذهب الحنفي، وهذا يظهر أي مدى وصله الصراع بين ربيع وكونر، ضد الأحناف، لقد بلغ مرحلة الذروة إذ صار نزاعًا في هيئة الصلاة. وفي نفس المقطع يتكلم ربيع المدخلي عن الأفغان الأحناف، فيقول “هذه الروح المتعصبة المتعنِّدة المتمردة على التوحيد، الروح الأفغانية”31

من تسجيل صوتي على اليوتوب لربيع المدخلي، بعنوان مناظرة الشيخ ربيع في أفغانستان، د41

وفي مجلة المجاهد، التي كانت تحت رئاسة جميل الرحمن، يقول ربيع المدخلي سنة 1989م “ألف عبد الرحمن المعلمي السلفي كتابه العظيم: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، رد فيه على مطاعن زاهد الكوثري” 32

فهو يستحضر مؤلفا كتبه المعلمي في الأربعينات، لتوجيه القراء نحو تلك الروايات التي نقلها في التنكيل، من كتاب الخطيب، والتي هدف المدخلي من خلالها إلى تسويغ التعرض لأبي حنيفة. ومما يحكى في تلك السنوات، أن الجزء الذي فيه ذم أبي حنيفة من كتاب [السنة لعبد الله بن أحمد] كان يقوم أسامة بن عطايا العتيبي بتوزيعه في صفوف جماعة كونر في أفغانستان أيام رفقته لربيع المدخلي.

لقد ألف محمد الغزالي في 1989م كتابه [السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث] في الانتصار لمذهب أبي حنيفة مقابل بقية المذاهب، ووسم مذهب أبي حنيفة بقوله [أهل الفقه] ليجعل الفقه أجنبيًا عن البقية بصفتهم [أهل حديث] فقط، ورأى ربيع المدخلي، وهو في أفغانستان، ضرورة تقويض المذهب الحنفي في صور شتى، ألم يستحضر كتاب التنكيل للمعلمي وهو المؤلف في سياق الاضطرار للرد على الكوثري في الأربعينات قبل نشوء الإسلاميين في أفغانستان؟ لقد استحضر ربيع المدخلي كتاب محمد الغزالي، لما رأى فيه من تدعيم للأيديولوجيا الأفغانية المناوئة لجماعة كونر، والمتمثلة في المذهب الحنفي. كتب ربيع المدخلي في مجلة المجاهد التابعة لإمارة كونر:

image 4
مقال لربيع المدخلي في مجلة المجاهد التابعة لإمارة كونر، سنة 1989

استحضر ربيع المدخلي في رده على محمد الغزالي، تلك الروايات الموجودة في [كتاب السنة لعبد الله بن أحمد] في النيل من أبي حنيفة فقها ومذهبا، إذ أورد في سياق الرد على الغزالي كتاب السنة لـ “الإمام عبد الله بن الإمام أحمد” 33

وبهذا كان ربيع المدخلي، قد رسم معالم العودة إلى روايات [كتاب السنة لعبد الله بن أحمد] ضد أبي حنيفة، في سياق التقويض الممنهج لأيديولوجية الحركات الأفغانية الحنفية، ولم يكن كتاب محمد الغزالي سوى واجهة لذلك. وبهذا رُسم مسار تدعيم حركة كونر بالنيل من المذهب الحنفي، لتثبيت المفاصلة بين كونر وبين بقية الحركات، الأمر الذي يتسق مع شهادة تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية في تلك الممرحلة، وبقية الشواهد المذكورة.

image 2024 07 02 153831752

لقد كان مقبل بن هادي الوادعي مقربًا من جميل الرحمن، كتب تركي الدخيل في كتابه [كنت في أفغانستان] “كان جميل الرحمن على علاقة وثيقة بالشيخ مقبل بن هادي الوادعي” 34 وعندما اغتيل جميل الرحمن، ألف مقبل الوادعي كتابًا بعنوان [مقتل الشيخ جميل الرحمن] وبما أن الأفغان أحناف، كتب مقبل تحت فصل بعنوان [مقابلة في شأن الجهاد الأفغاني] : “فالتمذهب ليس من دين الإسلام” 35 “أجمع أهل العلم على أن ‌المقلد لا يعد من أهل العلم” 35 “فإن ‌التقليد محرم” 37 “أما الدين فلسنا مستعدين أن ‌نقلد أحدًا” 38 ‌”والتقليد داء بل هو عمى” 39

ثم قدم نصيحة لجميل الرحمن، فقال: “ثم ننصح أخانا في الله ‌جميل ‌الرحمن حفظه الله تعالى باستقدام إخوانه أهل السنة ليشاركوه في التعليم، وليؤازروه على هذا الأمر فإن هذا ينفعه” 40 وقد حصل باستقدام ربيع المدخلي، ونبذُ التقليد في رسائله الموجه إلى الشأن الأفغاني، يعني به مواصلة المحاربة لمذهب الأحناف، وفي هذا السياق، حاول مقبل إمداد الحركة بكل دعم نظري.

image 2024 06 27 160000722

ألف الوادعي قبل مقتل جميل الرحمن كتابا بعنوان [نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة] قال فيه “والجاهلون المتعصبون لأبي ‌حنيفة كثير، وقد رأينا جمعًا من المدرسين بالجامعة الإسلامية يغضبون غاية الغضب، ويرون هذا هدمًا للإسلام وما درى المساكين أن المتكلم في أبي ‌حنيفة ما طعن في ركن من أركان الإسلام الخمسة” 41 وقد جاء هذا الكتاب بين 1988م-1989م، أي بعد أن سيطر جميل الرحمن على منطقة كونر. وسيكون لهذا الكتاب أثر بليغ في عبد الله الخليفي لاحقًا.

قتل جميل الرحمن سنة 1991م، وقد “قتله عبد الله الرومي، بثلاث رصاصات ثم قتل نفسه بالرابعة” 42 وكان “عبد الله الرومي يكره السعوديين بصفة عامة حكومةً وأفرادًا ومذهبًا، وكان من الواضح أنه ينتمي للإخوان المسلمين43

اتهم مقبل الوادعي حكمتيار بتخطيط مقتل جميل الرحمن، وفي كتابه [مقتل جميل الرحمن] يقول الوادعي “لأنهم جميعا آمنوا ولأنهم تركوا التمذهب واقتدوا يا قلب الدين حكمتيار44 وبهذا فهو يعلل مقتل جميل الرحمن بمحاربته للتمذهب بمذهب الأحناف.

عبد الله الخليفي تلميذ لربيع المدخلي

حرص عبد الله الخليفي على حذف كل مقالاته القديمة التي تظهر ارتباطًا باسم شيخه ربيع بن هادي المدخلي، ولكنَّ أرشيف البيانات احتفظ بها في غير موقع، وفيها كان يصف المدخلي بأنه إمام الجرح والتعديل، ويخوض معاركه ضد من ينتقده.

وسنة 2010 نشر المنتدى الإسلامي العام، مقالًا لعبد الله الخليفي بعنوان [وكفى بالشيخ ربيع مستندًا بالجرح والتعديل] وفيه قدم الخليفي مدى تعلقه بربيع المدخلي، يقول “واليوم إذا قلنا : أي مستند أقوى من قول الشيخ ربيع المدخلي حامل راية الجرح والتعديل قُبل قولنا” 45 ثم نقل الخليفي عددًا من التزكيات لربيع المدخلي، من كلام ابن باز، والألباني ومقبل بن هادي الوادعي.

image 55
من مقال لعبد الله الخليفي (وكفى بالشيخ ربيع مستندا بالجرح والتعديل)
من مقال لعبد الله الخليفي في منتدى الآجري
من مقال لعبد الله الخليفي في منتدى الآجري، يخاصم فيه الخليفي الحداد لأنه على خلاف مع شيخه ربيع المدخلي

وفي مقال لعبد الله الخليفي سنة 2010، في منتدى الآجري، بعنوان [دفاعا عن العلماء الأخيار] يرد الخليفي على خصوم شيخه ربيع المدخلي، يقول “لم يجرؤ حدادي ولا قطبي ولا منتكس على القول بأن العلماء السلفيين من أمثال الشيخ ربيع المدخلي متأثرون ببدع الخوارج قديمًا وحديثًا” 46 فهو يقصد بقوله [قديمًا] مرحلة ربيع المدخلي في أفغانستان.

إعادة إنتاج عبد الله الخليفي لأيديولوجيا ربيع المدخلي وجذور محاولات إسقاطه لمذهب أبي حنيفة

خلال فبراير سنة 2013، سخّر عبد الله الخليفي جهوده على تويتر لمشاركة مواد وصوتيات ربيع المدخلي، خصوصًا تلك التي يبرز فيها المدخلي في وضعية الهجوم ضد خصومه المعاصرين. ويختار الخليفي النشر للقاء يجمع ربيعًا المدخلي، بشخصية يسميها الخليفي بـ “عالم كبير” وهو مقبل بن هادي الوادعي، وسيأتي الحديث عن أثره في الخليفي.

تغريدة للخليفي سنة 2013 في المشاركة لصوتيات ربيع المدخلي
تغريدة للخليفي سنة 2013 في المشاركة لصوتيات ربيع المدخلي
تغريدة للخليفي سنة 2013 في المشاركة لصوتيات ربيع المدخلي

لقد كان عبد الله الخليفي وليد البيئة المدخلية، متعلقًا بشيخها بشكل مباشر، لمدة تزيد عن عشر سنين، كان فيها على تواصل مع ربيع المدخلي، متلقّيًا التوجيه المباشر منه، وناشرًا لصوتياته، ودورسه، وآرائه في الفِرق المعاصرة، والتي من بينها جماعة الإخوان المسلمين بمختلف تفرعاتها وتوزعها الجغرافي.

اشتهر عبد الله الخليفي على إثر علاقته الوثيقة بربيع المدخلي بالنيل من أبي حنيفة، شخصًا ومذهبًا، وحاول بصدد ذلك إيجاد مسوغات من داخل التراث وأقام تياره على مبدأ المفاصلة الجذرية مع مذهب أبي حنيفة وكل ترسُّباته التاريخية، ويوضح عبد الله الخليفي بعد انفصاله الصوري عن تيار ربيع المدخلي، إلى أي حد يبلغ به الأسى والحزن على فوات إمارة كونر بمقتل جميل الرحمن على يد الأحناف المنتمين لحركات أفغانية إخوانية.

نشر الخليفي مقالا بعنوان [تعقيب على قول سليمان العلوان [المعركة في مصر بين الإسلام والكفر] قال فيه: “وليعلم أن الدعاة الحركيين كانت لهم مواقف مضطربة ومخزية في عدد من المراحل في تاريخ الأمة الحديثفمن ذلك ما حصل في الجهاد الأفغاني وما حصل من التغاضي عن الشرك الموجود بين صفوف المجاهدين وتتويج ذلك بالسكوت على جريمة قتل جميل الرحمن” 47

هذا المقال، كان سنة 2013م وهو يتوافق مع سنة نشر الخليفي لصوتيات ربيع المدخلي ومقبل بن هادي الوادعي، كما في التغريدات أعلاه، وهذا يوضح الكثير، لقد كان الخليفي إبان مدخليته يستوعب عمق الفشل السياسي الذي عاناه تيار شيخه ربيع في أفغانستان، بسبب قوة الأيديولوجيتين الحنفية والإخوانية.

الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة لعبد الله الخليفي

وفي نفس السنة أعلن عبد الله الخليفي الحرب على مذهب أبي حنيفة، أي مع بقاءه ضمن الحيز المدخلي، خرج بكتاب إلكتروني يحمل عنوان [الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت] ألفه سنة 2013 48، قال في المقدمة “فهذا بحث […] في مسألة ما قيل في أبي حنيفة النعمان بن ثابت جرحا وتعديلا” 49

image 6
تأليف الخليفي عن أبي حنيفة كان في ديسمبر 2013، في نفس سنة نشره مقاطع ربيع المدخلي ومقبل الوادعي
نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة

وذكر الخليفي دواعي تأليفه لذلك الكتاب، وكان من بينها: “إن هذه المسألة حيرت كثيرا من طلبة العلم، إذ أنهم يرون الناس قد انقسموا في هذا الرجل ما بين مادح مطري، وقادح مزري” 50 وهذا الداعي يذكرنا بكتاب لمقبل بن هادي الوادعي (نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة) والذي ألفه الأخير لأغراض سبق ذكرها. والملاحظ، أن عنوان الخليفي مستوحى من عنوان الوادعي، وقد اقتبس الخليفي عنه في كتابه.

قال عبد الله الخليفي في كتابه [الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت] :

  • “فكيف إذًا لم يكن هناك إجماع من المعاصرين أو المتأخرين فهذا مقبل الوادعي له كتاب مستقل في المسألة اسمه (نشر الصحيفة)” 51
  • “هذا الشيخ مقبل الوادعي صنف كتابا خاصا في هذه المسألة ودعوته من أنجح الدعوات المعاصرة” 52

يمثل عبد الله الخليفي امتدادًا لذلك المشروع الذي انتصب له كل من مقبل الوادعي، وربيع المدخلي، في سياق تدعيم حركة كونر مقابل الأحناف والإخوان، نشأ الخليفي ضمن تيار ربيع المدخلي وكان من المداخلة المتعصبين كما يظهر من مقالاته القديمة، كما كان من أعمدة التأسي في مشروعه الذي بدأه في تقويض المذهب الحنفي؛ مقبل الوادعي، الذي كان يعتبره الخليفي في تلك السنوات من [العلماء الكبار].

ألف الخليفي كتابه [الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت] في نفس السنة التي كان ينشر فيها لربيع المدخلي صوتياته ضد خصومه، أي في نفس السنة التي كان يشارك فيها صوتيات قديمة لمقبل الوادعي، وفي نفس السنة التي يعبر فيها عن حزنه جراء مقتل جميل الرحمن.

وبقي عبد الله الخليفي إلى سنة 2022 يترقب الأحناف الأفغان، وفي مقطع له بعنوان [أسئلة حول ما يحدث في أفغانستان] 53 يطلب من الأحناف أن يحاكموا خصومهم من السلفيين، بدل القيام بتصفيات دون محاكمة، وكان يتعرض للأفغان قائلا “الآن هذا هو مذهب الأحناف؟”

إن عبد الله الخليفي يعبّر عن تجميدٍ لتاريخ معاش لربيع المدخلي في سنوات ذات ظروف سياسية معينة في أفغانستان، منذ خروج السوفييت منها، إلى مقتل جميل الرحمن في 1991م، حبسَ ظل تلك الحقبة بين ناظريه، وعاين خلال 2013 ما جرّه الأحناف؛ على مكانة التيار الذي عاش ضمنه لعشر سنين؛ أعني التيار المدخلي.

لقد ذهبت إمارة كونر في نظر الخليفي، وبهذا زالت إمارة شيخه ربيع المدخلي، لقد عبر ربيع المدخلي عن زوال كونر قائلا “والله سقوط كونر عندي أكبر من كارثة الكويت، ما قيمة الكويت؟ لكن كونر إمارة إسلامية قامت على التوحيد” 54 ولد الخليفي سنة 1986م، قبل مقتل جميل الرحمن بخمس سنوات، ولا يظهر له أي انتماء أولي إلا انتماؤه إلى ربيع المدخلي وتياره.

يشتد عبد الله الخليفي على الإخوان المسلمين، ويسميهم بـ “الحركيين” كما سبق في مقال له يرد فيه على العلوان، ويظهر أن موقف الخليفي من الإخوان، لم يكن بدافع علمي من الأساس، بل كان تبعًا في ذلك لموقف ربيع المدخلي.

image 2024 07 02 032743493

كان ربيع المدخلي إخوانيًا وكتب سنة 1986م “رحم الله سيد قطب لقد نفذ من دراسته إلى عين الحق والصواب ويجب على الحركات الإسلامية أن تستفيد من هذا التقرير الواعي […] لقد وصل في تقريره هذا إلى عين منهج الأنبياء” 55 وكتابة هذا الكلام سنة 1986م، أي قبل بداية النزاع الذي استحدث فيما بعد بين (كونر) وبين (حكمتيار) وبقية الجماعات الإسلامية، ولذلك قال المدخلي يجب على الحركات الإسلامية أن تستفيد من سيد قطب.

وما أن بدأت جماعة جميل الرحمن بالصراع ضد الحركات الحنفية الإخوانية، ومنعت وجود حزب حكمتيار في كونر، خلال سنة 1988م، أي بعد سنتين من كلامه الأول، صار يهاجم ربيع المدخلي رموز الإخوان ومن بينهم محمد الغزالي كما سبق تفصيله، وفي حين صار ربيع المدخلي يمنع التعاون مع الحركات الديوباندية، والماتوريدية، والأشعرية، بحجة أنهم مبتدعة، اتخذ الخليفي مسلكًا جذريا، لمَ يُكتفى بأنهم مبتدعة؟ لقد كفر الخليفي كل الأشعرية بأعيانهم، وكذلك الماتوريدية، وعمم موقفه على قديمهم وحديثهم، نحو حركة تصحيحية للتيار المدخلي، الذي تشكلت معالمه بهذه الصورة لظروف سياسية في أفغانستان.

أعاد ربيع المدخلي نظره في تاريخه ضمن أفغانستان، ووصل إلى نتيجة، مفادها أن زوال إمارةٍ كان مناصرًا لها، إنما كان سببه الإخوان الأحناف، وبهذا سخر جهوده في محاولة هدم الصرح الإخواني فكتب فيما بعد: “يقول سيد قطب بعقيدة وحدة الوجود والحلول والجبر” 56 ولكنه تجاوز المذهب الحنفي ولم يطل التركيز فيه بعد أن تيقن بزوال حظه في أفغانستان، فالعالم العربي قليل الانتساب لمذهب أبي حنيفة، لكن الأفكار الإخوانية فيه كثيرة، وبهذا سار ربيع المدخلي في خط النيل من الإخوان، وتحميل عبء زوال الإمارة على أفكارهم.

بقي تاريخ ربيع المدخلي بكل هذه التشعبات مشكِّلًا لرواسب لن تزول لسنوات في عقلية تلميذه المتعصب عبد الله الخليفي، والذي يختار مسار الرفض الراديكالي لكل مسببات زوال الإمارة الإسلامية كونر، في مقاله السابق هاجم الإخوان بأنهم حركيون قد أجرموا بقتل أمير كونر جميل الرحمن، وألف كتابًا يهدف إلى تهديم كل الصرح الحنفي، وواصل لمدة عشر سنوات محاولاته الدؤوبة لإسقاط أبي حنيفة شخصًا ومذهبًا.

عاش الخليفي عشر سنوات مدخليًا، ويعيش منذ انفصاله عن ربيع إلى اليوم عشر سنوات أخرى كمتحورٍ عن المدخلية، يعيش مشاكلها التي كانت في الثمانينات، وبداية التسعينات بكل تفاصيلها، حاول الخليفي أن يجد لنفسه سلفًا أقدم من داخل التراث الإسلامي، محاولًا بذلك أن يجعل مواقفه التي أسَّسها إبان المدخلية، سنة 2013م، ترجع بالدرجة الأولى إلى السلف الأوائل، ولكن الحفر في جذور الخليفي، التلميذ الأسبق لربيع المدخلي، تحكم بأن آراءه التي اشتهر بها، كانت بشكل أساسي ترجع إلى جميل الرحمن، وربيع المدخلي، ومقبل الوادعي، وإمارة كونر الأفغانية.

قائمة المراجع

  1. جامع المسائل، ابن تيمية، دار عطاءات العلم، ج7، ص117 ↩︎
  2. اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ج1، ص375 ↩︎
  3. درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ج1، ص311 ↩︎
  4. درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ج3، ص140، بتصرف ↩︎
  5. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية، ابن تيمية، ج1، ص439 ↩︎
  6. المغني، القاضي عبد الجبار، ج7، ص283 ↩︎
  7. الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي، ص199 ↩︎
  8. مقال عبد الله الخليفي بعنوان (أثر الجهمية وعلم الكلام على متأخري اليهود) الرابط ↩︎
  9. تاريخ أفغانستان، وتطورها السياسي، صلاح العامري، ص135 ↩︎
  10. أفغانستان في عهدها الحديث، سلام محمد علي، ص44 ↩︎
  11. تاريخ أفغانستان، وتطورها السياسي، صلاح العامري، ص157 ↩︎
  12. تاريخ أفغانستان، وتطورها السياسي، صلاح العامري، ص158 ↩︎
  13. تاريخ أفغانستان، وتطورها السياسي، صلاح العامري، ص166 ↩︎
  14. The Search for Security in Post-Taliban Afghanistan. Mark Sedra.p112 ↩︎
  15. ذكريات عربي أفغاني، ص168 ↩︎
  16. التآمر السري لبريطانيا مع الأصوليين، مارك كورتيس، ترجمة كمال السيد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، ص207 ↩︎
  17. التآمر السري لبريطانيا مع الأصوليين، مارك كورتيس، ترجمة كمال السيد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، ص220 ↩︎
  18. .Jim Burroughs .Blood on the Lens A Filmmaker’s Quest for Truth in Afghanistan p59 ↩︎
  19. التآمر السري لبريطانيا مع الأصوليين، مارك كورتيس، ترجمة كمال السيد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، ص214 ↩︎
  20. Afghanistan in the Post-Cold War Era. Barnett R. Rubin. p86 ↩︎
  21. Night Letters. Gulbuddin Hekmatyar and the Afghan Islamists who Changed the World. Fazelminallah Qazizai. p261 ↩︎
  22. Afghanistan in the Post-Cold War Era. Barnett R. Rubin. p86 ↩︎
  23. باسم السلف، يوسف سمرين، ص124، بتصرف يسير. ↩︎
  24. مجلة المجاهد، العدد 30، ص17 ↩︎
  25. Afghanistan in the Post-Cold War Era. Barnett R. Rubin. p87 ↩︎
  26. كنت في أفغانستان، تركي الدخيل، ص24 ↩︎
  27. https://youtu.be/-Ra3kx-0638?si=O8W1rQCj5EtmtDdx ↩︎
  28. قصة الجهاديين العرب، كميل الطويل، 2017، ص54 ↩︎
  29. Awakening Islam, the Politics of Religious Dissent in Contemporary Saudi Arabia, p117/118 ↩︎
  30. مجلة المجاهد، العدد10، صفر 1410، ص18 ↩︎
  31. تسجيل صوتي على اليوتوب لربيع المدخلي، بعنوان مناظرة الشيخ ربيع في أفغانستان، د41 ↩︎
  32. مجلة المجاهد، العدد 11، 1410 هـ، 1989م، ص23 ↩︎
  33. مجلة المجاهد، العدد 11، 1410 هـ، 1989م، ص24 ↩︎
  34. كنت في أفغانستان، تركي الدخيل، ص24 ↩︎
  35. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص7 ↩︎
  36. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص7 ↩︎
  37. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص5 ↩︎
  38. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص30 ↩︎
  39. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص90 ↩︎
  40. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص30 ↩︎
  41. نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة، مقبل بن هادي الوادعي، ص5 ↩︎
  42. ذكريات عربي أفغاني، ص158 ↩︎
  43. ذكريات عربي أفغاني، ص159 ↩︎
  44. مقتل الشيخ جميل الرحمن، مقبل بن هادي الوادعي، ص62 ↩︎
  45. مقال عبد الله الخليفي في المنتدى الإسلامي العام بعنوان (وكفى بالشيخ ربيع مستنداً بالجرح والتعديل … للأخ / عبدالله الخليفي) الرابط ↩︎
  46. مقال لعبد الله الخليفي على منتدى الآجري بعنوان (دفاعاً عن العلماء الأخيار [مقال للأخ عبد الله الخليفي]) الرابط ↩︎
  47. من مقال عبد الله الخليفي بعنوان [تعقيب على قول سليمان العلوان ( المعركة في مصر بين الإسلام والكفر] الرابط ↩︎
  48. كتاب عبد الله الخليفي بعنوان (الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت/ ديسمبر 2013) الرابط ↩︎
  49. الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت، عبد الله الخليفي، ص2 ↩︎
  50. الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت، عبد الله الخليفي، ص2 ↩︎
  51. الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت، عبد الله الخليفي، ص20 ↩︎
  52. الترجيح بين أقوال المعدلين والجارحين في أبي حنيفة النعمان بن ثابت، عبد الله الخليفي، ص263 ↩︎
  53. https://youtu.be/Z299JnLwUSw?si=OUtQIK72vTgqumBF ↩︎
  54. تسجيل صوتي على اليوتوب لربيع المدخلي، بعنوان مناظرة الشيخ ربيع في أفغانستان، د36 ↩︎
  55. منهج الأنبياء، ربيع المدخلي، الطبعة الأولى، 139 ↩︎
  56. أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب، ربيع بن هادي المدخلي، ص152 ↩︎

اقرأ مراجعتي لكتاب باسم السلف تأليف يوسف سمرين، في نقد عبد الله الخليفي:

مراجعة كتاب باسم السلف في نقد الخليفي، تأليف: يوسف سمرين

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *