لطالما أثَّر فوكوياما في السياسة الأمريكية وهو من ابرز من ارتبط بشكل وثيق بالنظام الليبرالي الرأسمالي، وبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ألَّف كتابًا بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير 1992) واعتبر فيه انتصار أمريكا بصفتها الرجل الليبرالي الغربي على المنافسين دلالةً على نهاية التطور الأيديولوجي لصالحها، وأن الليبرالية الديمقراطية هي النموذج النهائي للحكومة البشرية، وأثر هذا الطرح في السياسة الأمريكية بشكل واضح.
ثم تطورت التحديات السياسية نتيجة لتصاعد أحداث عالميَّة عدة، وقد أورثت الحرب العالمية الثانية دولًا ضعيفة، وصعدت بشكل ما حركات شعبوية، تلتها نهضة سلطوية في كثير من دول العالم، وكان أبرز ما مثل تحديًا للسياسة الأمريكية صعود الحركات الإسلامية، والتي توجت بأحداث 11 سبتمبر، وصعود الصين كقوة عالمية في شقيها السياسي والاقتصادي كمنافس لذلك الرجل الغربي.
ثم مع إصابة أمراض مثل الإيدز لأكثر من 25 مليون إنسان، وصعود كارتلات تجارة المخدرات والتي بلغت مجدها مع كارتل ميديلين، وبعد إنهاء أمريكا لبابلو، صعد إل تشابو كواحد من أكبر ورثة ناركوس، وكان صعود كارتل سينالوا منعطفًا حرجًا لأمريكا بعد سيطرة ورثة إسكوبار على السوق الأمريكي والمكسيسي، واتساعهما، فلم تعد مشكلة الدول في المنافس الأيديولوجي وحسب!

اتضح لفوكوياما أن أحداثًا كهذه لم تكن لتبقي نظرية (نهاية التاريخ 1992) بنفس المصداقية، وتهافت ذلك التأطير النظري الذي كان تأكيدًا على صعود لا يقاوم للأنظمة الديموقراطية الغربية، وهي سخرية التاريخ على من حكموا بنهايته. تعرضت أطروحة فوكوياما للنقد، ولم يؤثَر أنه كتب (ينتظرون تضرر أمريكا كي يثبتوا وجهة نظرهم) بل مع تصاعد القوى غير الليبرالية، تراجع عما كتبه في 1992، وعوضا عن محاولة إعادة تأويل الوقائع لتتفق مع فرضيته الأولى، أصدر كتابه (بناء الدولة – النظام العالمي ومشكلة الحكم 2004) ولم يكن شاقًا إدراك الخطأ مع كل حدث يثبت فشل الفرضيات السابقة، لقد كان الأمر مرنًا!
أطروحة بناء الدولة لـ فوكوياما
طرح فوكوياما في (بناء الدولة 2004) نقدًا لفرضياته السابقة عن الانتصار الكاسح، وأعرب عن التراجع عن مسلَّماته التي كانت قبل، وبدأ يتحدث عن الهشاشة التي عمَّت الأنظمة الغربية وكيف أن الوصول إلى نموذج حكم، أو أيديولوجية نهائية، ليس كافيًا في بناء نظام دولي قوي، فتبني نظام ديمقراطي دون بناء مؤسسات قوية، قد يؤدي إلى انهيار وتفكك تلك الدول، أو ضعفها، وبذا، تراجع فوكوياما بشكل جذري عن قناعته الأولى بأن الليبرالية كنموذج حكم كافية لخلق أنظمة مستقرة.
فهل كان هذا كافيًا؟ كلا، فمع سوء الإدارة الأمركية بعد احتلال العراق، لم يكن بناء مؤسسات قانونية وإدارية محققًا لتلك النقلة نحو (بناء الدولة) مؤسساتيًا فتشكلت فجأة أزمة هوياتية مع صعود الأيديولجيات الإسلامية بشكل قوي، خصوصا بعد اتحاد كثير من الضباط البعثيين مع الحركات ذات الأيديولوجية الإسلامية المسلحة في العراق، فطرأت أزمة ثقافة بعد حل أزمة المؤسسات! ومع التماهي مع فكرة (الدولة القوية) صار الواقع يفرض أن بناء الدولة لن يتم إلا عبر إعطاء مساحة أكبر للهوية المحلية، وتراجعت أطروحة (بناء الدولة 2004) مثلما تراجعت سابقتها، وأدرك فليسوف البلاط الأمريكي هذا، فماذا كان؟

يمكن أن يكون فوكوياما قد تعرض بعد سقوط كل طرح يثبت عدم انتصار السياسة الغربية كما يلزم لسؤال (ما البديل؟) وفي أوساط تتقبل النقد يسهل تأطير البديل، بخلاف ما لو يقضي الرجل سنوات طوال في التأكيد على أن خطأ جسيمًا كان في الطرح السابق أو في السياسة السابقة، فالمسؤولية النظرية هي أولى القواعد التي يفترض أن يرتكز عليها المشاركون في التحليل السياسي.
وما دام التأكيد على وقوع خطأ، يتحول بشكل سريع إلى قناعة، يسهل التقدم نحو الخطوة التالية، بخلاف ما لو يتجاهل المخطئون خطأهم إذا ما ثبت، كإدِّعاء نصر يتكشَّف غلطه من بعد، فلا يقر من افترض انتصار نموذجه بالخطأ كي يقترب من البديل! بل يسعى جاهدًا لتأويل الوقائع لتتفق مع قناعاته، ولكن الواقع مع أنه مؤلم لصاحب الطموح قد يكون فضَّاحا، ومع هذا تحكم الصرامة النظرية بأن القناعة أجدر بها أن تتبع تغيرات الوقائع، لا أن تلوى الوقائع لتتفق والفرضيات المتسرعة!
أطروحة بناء الهوية لـ فوكوياما
وهكذا بعد التراجع عن كثير من أفكار (بناء الدولة 2004) بسبب فشل بعض التجارب التطبيقية التي حاولت بناء الدول على نفس الأسس التي ناقشها في الكتاب، جاء طرح فوكوياما الأحدث، وهو كتاب (الهوية 2018) وناقش فيه الهوية الإنسانيَّة، وكان الإشكال الأساسي فيه أن الأيديولوجيا ليست كافية، كما أن بناء دولة مؤسسات لم يعد كافيًا، بقدر ما يجب التطرق لمسألة الهوية الفردية والجماعية بشكل أكثر دقة حول أثرها على السياسة والاقتصاد والدولة.
وأضحى بنظره اهتمام النظام العالمي بهويات الأفراد العرقية أو الدينية وحتى الجنسية، حاجة ملحة لبناء نموذج نهاية التاريخ والذي كان قاصرًا مع أطروحة 1992، وهذا بعد صعود حركات اليمين المتطرف، والأيديولجيات الأقلياتية، إذ شكلت هاجسا باعتبارها قوى سياسية تطالب بالاعتراف الهوياتي، بغض النظر عن بنية وقوة المؤسسة ونموذج الحكم.
وبعد بداية العملية الروسية في أكرونيا سنة 2022، بدت أطروحة (الهوية 2018) والتي فرضت انتصار التناسق الديمقراطي الليبرالي عالميًا، هشةً إلى حد بعيد، فروسيا أنكرت الهوية الأوكرانية، وادعت أن أوكرانيا أو مناطق منها، تمثل جزءا من الهوية الروسية، ولم يكن طرح فوكوياما الذي ساهم في تطوير السياسة الأمريكية سليمًا، وأضحى التناقض بين دعوى الهوية الروسية للأمة الأوكرانية، والمطالبة باندماج الحكومة الأوكرانية مع الغرب مثارًا لاندلاع حرب جربت فيها شتى أنواع الأسلحة العالمية، وقاربت على استعمال السلاح النووي، وبهذا لم تكن أطروحة (الهوية 2018) معبرة عن خطوة نحو تكشيل نظام ديمقراطي أوسع ومتين، بقدر ما غذت الصراعات الهوياتية حربًا كادت أن تكون عالمية.

شارك بعض الأوراسيين يومها في السخرية من فوكوياما، وعلقوا بأن العملية الروسية هي “حرب فوكوياما مع نفسه، ومع نهاية التاريخ والهيمنة الأمريكية”، حتى سخر بعضهم بأن أفلاطون حرق قديمًا كتب ديموقريطس، وبوتين يحرق اليوم كتب فوكوياما، إشارة على تبخر نموذج النظام العالمي الأوحد والأخير.
ومع ذلك خرج فوكوياما بعد غياب طويل وعلَّق بأن أطروحاته السابقة قد انحسرت، وكاد يقارب على النداء بإعلان حرب نووية على روسيا، ثم كتب أن مشكلة الصين لا تزال قائمة! ولم يصدر له كتاب بعدها، واكتفى بتسجيل نقده على جل أطروحاته السابقة بعد تعين فشلها إلى أن يجهز له تصور أحدث.
ولا يزال فوكوياما إلى اليوم من نخب السياسة الأمريكية، ومع تراجع اهتمام الإدارة الأمريكية به، بعد التراجع النسبي لتأثيره مؤخرًا، لا تزال تعنى به المؤسسات البحثية الأمريكية والأوربية وحتى العربية، ولم ألتمس في دراسة عربية أو غربية حوله وصمة (فيلسوف التراجع) بقدر ما تعاملت معه الدراسات التحليلية على أنه أكثر مسؤولية وصرامة تجاه فرضياته السابقة.
وليس هنالك أي سجال حول تحديات الديمقراطية إلا وذكرت معطياته، ولم يكن ليصلنا أثره على حقوق الإنسان والهويات الجندرية، وتصاعد النزعات الأقلياتية، لو عمل في مجال التنظير كفارس تراند، مخافة أن ينحصر نفوذه على السياسة الأمريكية، بعد التراجع عن أطروحة نهاية التاريخ 1992، ولا حتى عن أطروحة بناء الدولة 2004.
اترك تعليقاً