المواطن العربي يتضامن، ولكن بشرط!

د

صورة من مسلسل المتسول

فترة الثمانينات، صدر فلم بعنوان (المتسول) من تأليف سمير عبد العظيم، وكان مفتتحًا بمشهد لعادل إمام في شخصية حسنين البرطوشي، الشاب الفقير المقطوع الذي ليس له بيت ولا أهل ولا والد ولا والدة. يسافر حسنين البرطوشي من منطقة فلاحية، إلى المدينة، بحثًا عن خاله الذي يفترض أنه سيقدم له المبيت ويجد له عملًا.

لم يكن البرطوشي يعرف القراءة، وكانت لديه ورقة تحمل عنوان سكن خاله، ينزل من السيارة ويسأل الناس عن العنوان المكتوب في الورقة، لكن عند سؤاله إياهم، لا يجيبه أحد، ولا يكاد يرد عليه السلام، يقول البرطوشي “إيه البلد دي اللي محدش فيها يرد على حد!” وهو مشهد يشرح أنَّ الفقر الحقيقي لا يحرِّك الضمير الاجتماعي، فإن المدينة تتجاهل من ليس من طبقتها، ولا تهتم لسؤاله ورأيه حتى.

دارت أحداث الفلم ووجد البرطوشي الإيواء في تنظيم هرمي للمتسوِّلين، والذين حكم مديرهم بأن يجري توظيفه في صورة (عزيز قوم ذل) أي أنه سيلبس بدلة رسميَّة تليق بالمدينة، وسيتظاهر بالعمى، فيلبس نظَّارة فاخرة، وربطة عنق، ثم يمدُّ يده بصفته (شحَّات) في المناطق التي تكثر فيها حركة الطبقات البرجوازيَّة، وما حصل أنَّ البرطوشي صار يتلقَّى تدفقا ماليًا من التسول بشكل أبهر حتى مدراء التنظيم الذي احتواه.

المفارقة في الفلم أبرزت إحدى صور النفاق الاجتماعي، فالفقير ذو اللباس الرثِّ مهمَّش بصفته منتميًا إلى طبقة لا تعطى لأن المعطي لا يشبهها، وكان الانحياز الطبقي متمثلًا في كون المدينة كانت تعطي نفس الفقير بشرط أن يكون فقره مسرحيًا، بلباس أنيق ونظَّارات، يشبه تلك الطبقة ظاهريًا، ما كشف أنَّ الناس لا تعطي وفق الحاجة، بل وفق تماثلها مع صورة المحتاج، أو توفر الشروط الطبقيَّة التي تناسبها!

وهكذا بعد عقود وجد المواطن العربي نفسه في صورة تلك الطبقة التي تشترط على الفئات المنكوبة اصطفافا أيديولوجيًا حتى تؤازرها على ما حلَّ بها من نكبات، وما أن تتزحزح تلك الفئات عن الصورة النمطية التي يشترط المواطن العربي توفرَّها، كأن تخلع اللبوس السياسي الذي يشترطه، ينكشف أنَّ تكاتفها المزعوم كان مسرحيًا، لا أنه نابع عن وعي أخلاقي راسخ، بل هو تكاتف مشروط بأن يظهر الفلسطيني كمنكوب أنيق يلبس الخطاب السياسي الذي يناسب ذوق المتضامن، حيث لا تمنح الرحمة لأن الحاجة قائمة، بل لأن صورة المحتاج تشبه توجههم، وتطمئنهم، وتحاكي خطابهم.

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *