مقدِّمات في النَّقد [2] : طه عبد الرحمن.

د

طه عبد الرحمن

عندما نتكلَّم حول مؤلفين من ذهنيَّة طه عبد الرحمن، فإنَّنا نتكلَّم حول محاولة من التبسيط التجريدي المخل بجل المعطيات الواقعيَّة، التي يُفتَرض أن تساهم بكل تفاصيلها في بناء رؤيتنا السِّياسيَّة، نتكلم عن ابتكار لغة تجريديَّة، تصوُّفيَّة، ليس لها أي متعلق بالفلسفة السيَّاسيَّة.

كتاب ثغور المرابطة لـ طه عبد الرحمن
كتاب ثغور المرابطة لـ طه عبد الرحمن

فطه عبد الرحمن، يتصوَّر أن إعطاء صورة بلاغيَّة بعبارات غامضة، لا يستوعبها غيره إلا بشكل محتمل، لأي معطى واقعي، يمنح لكلامه وزنًا فلسفيًا، فمثل هؤلاء، دخلوا مضمار الكتابة السيَّاسيَّة، بذهنيَّة علم الكلام، والفلسفة الإسلاميَّة، ولم يكونوا حريصين على التحليل السِّياسي، بقدر ما حرصوا على بناء حقل دلالي فردي، لإعادة صياغة الحدث السِّياسي الموضوعي، بشكل ذاتي صرف، ممثِّلين صرخة العالَم القديم، معتبيرين أنفسهم إمتدادًا سياسيًّا ما لذلك التراث التجريدي.

في الصفحات العشرين الأولى، يضع طه عبد الرحمن شكلًا لأدوات الصِّراع السعودي الإيراني، مختصرًا وسائل الصراع على النفوذ لدى النظام السعودي، تنكفئ على أداتين: الوهابيَّة، والثروة النِّفطيَّة. مع أن الواقع لا يثبت مثل هذا الحصر، فمشاركة النظام السعودي في اليمن، لم تكن معتمدة على الوهابيَّة، ولا إغداق الجماعات بالدَّعم المالي، بل كان تدخلًا مباشرًا من الجيش النظامي، مع تدخُّل قوى دوليَّة عدة، وجعل القراءة ضمن إطار (الوهابيَّة) (النفط)، بشكل شعبوي، يجعل الطرح فقزًا على الواقع.

صورة من كتاب طه عبد الرحمن - ثغور المرابطة
صورة من كتاب طه عبد الرحمن – ثغور المرابطة

يرى طه عبد الرحمن أن النِّظام السعودي والإيراني، يسعى كلٌّ منهما إلى الحصول على مشروعيَّة دينيَّة لصراعهما من خلال استثمار مكوِّن ديني أو طائفي 1 وهذه تمثِّل رؤيةً ذاتيَّة، وليست تمثل تحليلًا سياسيًّا إلا في بلاطوهات الجزيرة، بخلاف ذلك، يعتمد النِّظام السعودي بشكل واقعي على (مضلَّة الشرعيَّة الدوليَّة) بالدرجة الأولى، لا (الشرعية الطائفية)، وهذا من خلال الحصول على دعم (المؤسسات الدوليَّة) كالأمم المتَّحدة، أو جملة التحالفات العسكريَّة الإقليميَّة.

وللتَّمثيل، دخول الجيش السعودي إلى اليمن، منذ 2015، كان بناء على إعادة الشرعيَّة للحكومة اليمنيَّة المعترف بها دوليًا، ولهذا حصلت السعوديَّة على دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتَّحدة. ولم تكن الشرعيَّة في التدخُّل هنا ذات بنية دينيَّة لو فكرَّنا بموضوعيَّة، لكن عند التعامل مع المسرح السِّياسي بشكل ذاتي، والنَّظر إلى ما يتم توجيه المتابع العربي إليه، بما يتناسب مع مستوى وعيه، ينعكس ذلك في رؤية طه عبد الرحمن بشكل مباشر، أنَّ الصراع مبني بشكل تسلسلي على الحجج الطائفيَّة، كما يسميه، أو الدينيَّة.

فهو كمن يريد تقديم تخريج فقهيٍّ لمسألة إلغاء العبوديَّة، مع أن قرار الإلغاء صار نافذًا في الخليج بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم تفاقم الضغط الدولي، إلى أن أزيل في مثل السعوديَّة بقرار ملكي.

في البحرين مثلًا، ألم تتدخَّل السعوديَّة سنة 2011؟ لقد كان دعمها موجهًا إلى النظام البحريني، بتبرير من مجلس التعاون الخليجي، على أن التدخُّل يأتي ضمن (حفظ الأمن الاستقرار في الإقليم). ولم يُغذَّى القرار بدوافع ثيوقراطيَّة كما يصوِّر ذلك طه عبد الرحمن. لكنه يسعى لرسم صورة اختزاليَّة للمشهد السياسي العربي، وهذا لا يرفع لقارئ وعيًا بقدر ما يضلل وعيه تجاه الأحداث.

أيكون فيلسوفًا من يعيد تكرار الدِّعايات الإعلاميَّة المختزَلة؟

يُعبَّر عن طه عبد الرحمن بأنَّه فليسوف سياسيِّ، لكن هل يكون فيلسوفًا سياسيًا من لا تتجاوز مؤلفاته بعض التقارير الإعلاميَّة مع إعادة صياغتها وحسب؟ مثلًا، يطرح طه عبد الرحمن بكل إصرار نظريَّة انحصار صراع السعوديَّة وإيران، في البواعث الطائفيَّة، هذه نقطة إعلاميَّة، لكن هل تسويد الصفحات في هذا المفهوم يمثِّل فلسفة سياسيَّة؟

كلَّا، العمل الفلسفي السياسي، يبحث في مناطق مظلمة، مناطق تؤكِّد على دوافع أصليَّة، لا يشترط أن تكون هي التي يُعبَّر عنها في الإعلام، لكنَّ تفسير الصراع من خلال الأفكار، مع إهمال مدى التناقضات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، والطبقيَّة، ومسائل تتعلق بتوزيع الثروة، هو ما يجعل طه عبد الرحمن معيدًا لعين السرديَّات التي سبقته.

رؤيته حول (جوهريَّة الشعلة الطائفيَّة في النِّظامين السعودي والإيراني) هي إعادة بعث لمباحث نيتشه التي شرح فيها استعمال (الدين كأفيون للشعوب) فيضحى المجال السياسي في نظر (الجماهير) منكفئا على ما قدمه النظام من شرعيَّة دينيَّة، والطريف أن طه عبد الرحمن، بحكم أنه من (النخبة المثقفة) جد منساق مع هذا الإطار كفرد من هذه الجماهير، ولا يريد أن يناقش البتة عوامل أخرى متحكِّمة في الصراعات الدوليَّة.

فهو يرى أن النظام السعودي والإيراني قد “عادا إلى الصراع الطائفي الأول” 2 وبهذا لا يناقش نظريَّات كالعقد الاجتماعي والصراع الطبقي، والهيمنة الاقتصادية، ووسائل الانتاج، والإمبراليَّة، ومفاهيم سياسيَّة واقعيَّة، ومدى فاعليَّتها في الصراع، بل يختزل كل مشواره في التحليل بصفته (فليسوف سياسي) في اختزال الموضوع بأن المحرِّك الأساسي إنما هو الصراع الطائفي الأول، وهكذا يرجع إلى ربط متعسف للواقع الدولي الحالي بصراع معاوية وعلي، يزيد والحسين، ولمَ لا نسوِّد بعض الصفحات بصراع الأمويين مع الهاشميين؟ ليتحوَّل التحليل السياسي في جوهره إلى الرؤى الذاتيَّة.

محدوديَّة رؤى طه عبد الرحمن في تبسيطه للنزاعات الإقليميَّة

يحاول طه عبد الرحمن تبسيط النزاع السعودي الإيراني، وعرضه في قالب يجعل من الدافع الطائفي مولِّدا رئيسيًّا للصراع بين السلطات، وأخذ يشرح بهذا الصدد جوهر الحكم لدى السنَّة، مقابل الشِّيعة، فيقول “الطَّرف السُنيِّ تعامل مع الحُكم، بموجب تأسيسه، على أصل المصلحة العامَّة، على أنه نتاج الرأي المسدَّد، بينما الشيعيُّ بموجب تأسيسه على أصل محبَّة أهل البيت” 3

مع أنه سبق توضيح ميكيافيلي لبنية صراع السُّلطات، فإنه لدينا فضاءٌ واسع للتَّحليل، حول ما يقف وراء هذا الاستخدام للدين، دون الوقوع في فخ تصديق الدعايَّة الإعلاميَّة بأن الدين هو المحرِّك الأساسي للصراع لدى كل جناح لديه أيديولوجيا دينيَّة.

كتاب المطارحات لنيكولا ميكيافيلي
كتاب المطارحات لنيكولا ميكيافيلي

لذلك أوضَح ميكيافيلي في كتابه (المطارحات) منهجًا متقدمًا في التحليل السِّياسي: دراسة (الأحوال) التي استعصى على الرومان تثبيت سياساتهم فيها إلا من خلال استخدام (نفعيٍّ) للدِّين، من دون أن يكون هو المحرِّك الأساسي لتلك السِّياسة، فيضحى سلوك الأمير منحصرًا في استعمال الدين كوسيلة للتأثير على المشاعر العامة، لا الغاية. فقد كان ميكيافيلي يشرح بشكل واقعي، تلك السِّياسات ودوافعها الحقيقيَّة، لا مقتصرًا على إعطاء بُعد تجريدي للاستعمال.

وقد يأتي تصعيد النزعة الطائفيَّة بالنسبة للحكومات لأسباب عدَّة، منها ما ذكره ميكيافيلي في أمثلة مخصوصة، ومنها ما يذكره لينين حول استخدام الطبقة الحاكمة للدِّين لإخفاء التناقض الطبقي والتوزيع غير العادل للثروات، ومنها ما يذكره نيتشه حول استعماله كمخدِّر (أفيون الشعوب)، ومنها ما يذكره ماركس حول توظيفه للسَّيطرة على وسائل الإنتاج، ومنها ما يذكره أنجلز وبونخي، وغيرهما، من استعماله كأداة للحفاظ على السَّيطرة.

فإنَّ كل مجالات استعمال الدين بشكل طائفي تمثِّل مقدِّمةً في التحليل السِّياسي، وإنما بحث التناقضات الطبقيَّة، ومحال توزيع الثروات، وطبيقة وسائل الإنتاج، وغير ذلك، هو ما يسمى إضافةً علميَّة في الاقتصاد السيَّاسي، أي بحث العوامل الدافعة نحو هذا التَّوظيف.

لذلك، فإن الثورة الإيرانيَّة، كانت من حيث المبدأ ثورة شعبيَّة ضد التدهور الاقتصادي، والتوزيع (غير العادل) للثَّروة، ولم يكن النظام الطائفي الإيراني إلا نتيجةً لأزمة اقتصاديَّة واجتماعيَّة، والطائفيَّة في إيران لم يجر توسيع نفوذها بعد الثَّورة إلا في سياق تأمين السَّيطرة التي لا بُدَّ أن تأتي بعد الحدث الثَّوري.

صورة رمزية عن الثورة الإيرانيَّة
صورة رمزية عن الثورة الإيرانيَّة

لكن ماذا يفعل طه عبد الرحمن، ليوضِّح مستوى ما يدور في رأسه حول طريقة الكتابة في التحليل السِّياسي؟ إنَّه يحلِّل الصراعات الإقليميَّة بكل تفاصيلها بتحميلها عبوَّة غير واقعيَّة، فَلِيشرح طبيعة الصراع السعودي الإيراني، يكتب تحت عنوان “أطوار الصراع السِّياسي بين المحكِّمة والمتظلِّمة” ويرى أن الصراع السعودي الإيراني “ظهر بظهور التحكيم … تمثَّلت المرحلة الأولى في منازعة معاوية بن أبي سفيان لعلي ابن أبي طالب حقَّه في الخلافة” 4

فهنا، لا نجد تحليلًا للمعطيات السياسيَّة، والاقتصاديَّة التي أشير لها آنفًا، والتي تلعب دورًا محوريًا في تحديد تحرُّكات هذه الدُّول، وإنما يريد طه، أن يحلِّل صراعًا يمتلك سلسلَة من الدَّوافع الموضوعيَّة، بشكل ذاتي، ليؤكِّد على فكرة واحدة، وهي أنَّ باعث كل حركة سياسيَّة سعوديَّة أو إيرانيَّة إنما هو الباعث الطائفيُّ وحسب، بناء على صراع قديم وقع بين معاوية، وعلي، وهو ما سأناقشه فيما سيأتي لاحقا بشكل تفصيلي.

تحوير طه عبد الرحمن لجوهريَّة الصراع السعودي الإيراني

طه عبد الرحمن، كما سبق، يرى أن النزاع السعودي الإيراني هو طور أولي، لذلك النِّزاع الواقع بين معاوية وعلي، فهلَّا حقَّق المسائل التاريخيَّة وهو يكتب في المسألة المتقدِّمة؟ كلَّا، بل آثر مواصلة تزييف الحقيقة وكتب قائلًا “تجرَّأ معاوية على انتزاع قسم من الولاية التي ائتُمن عليها، اسمًا وأرضًا، فقد تسمَّى، هو الآخر بالخليفة، واستقلَّ بجزء من أرض الإسلام” 5

مع أن معاوية لم يدَّع الخلافة أيام الصٍّراع مع علي، بل كان صراعًا حول دم الخليفة عثمان، والتعبير بلغة (الائتمان) في صراع بهذا الثِّقل، هو تبسيط مبالغ جدًا للأحداث، ومن وجهة نظر معاوية، فإن كل قتلة عثمان، الخليفة السابق (أي حامل الأمانة)، قد أخذوا مناصب قياديَّة حسَّاسة في معسكر علي، من ضبَّاط وجنرالات وولاة، وقبائل حتَّى، فالمنطقي أن ينظر معاوية لمسؤوليَّة الائتمان في الطرف المقابل، لا في طرفه، فكان يفترض على طه، ألا يكون اختزاليًا إلى هذا الحد حتى يحلَّ إشكالات تاريخيَّة مثل هذه، بابتكار مصطلحات متقعِّرة مثل الائتمان، والفكرانية، ونحو هذا.

ثم يحاول بشكل فجّ، أن يجعل بنية النظام السعودي، أو لنقل (الطائفيَّة) السعوديَّة، ذات منشأ أموي، مع أن الفوارق الأيديولوجيَّة محدَّدة بشكل واضح بين النظامين، النظام الأموي كانت البنية الأيديولوجيَّة فيه تقوم على ركائز عدَّة، من بينها (عدم التربيع بعلي) في الخلافة، بخلاف التوجه الديني السعودي.

فمنذ نشأة الدولة، ومختلف الرسائل النجديَّة ترى التربيع بعليّ، وترى تصحيح حديث (تقتل عمار الفئة الباغية)، ولا وجود لنص لأحد من أنصار أو أتباع محمد بن عبد الوهاب، يرى تهاونًا مع موضوع يزيد، ثاني حكَّام بني أمية بعد عثمان، وفي رسالة ضمن الدرر السنيَّة، جاء فيها جواب عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قال “الحسن والحسين أولى من يزيد بالخلافة وبني أمية” 6

image 2024 10 03 184202497
الدرر السنيَّة

فإن كانت أحد أبرز المسائل التي بنيت عليها شرعيَّة الدولة الأموية، لا يرى أئمة الوهابيَّة شرعيَّتها، أو أنهم لا يصطفُّون أيديلوجيًا جنبًا إلى جنب مع الأمويين، ما الداعي لتزييف المباحث وخلط الواقع بمقتطفات تاريخيَّة وجعل الأمر أشبه بالتبرير المنطقي لفكرة غير متماسكة كهذه، بل وجعل الصراع السعودي الإيراني ضمن أطوار الصراع الذي نشأ بين معاوية وعلي، ويزيد والحسين، والأمويين والهاشميين من بعد؟

في اختزال طه عبد الرحمن لهيمنة السُّلطات على المؤسسة التَّعليمية

حين حديثه عن النِّظام السعودي وعلاقته بالتَّعليم، يكتب طه عبد الرحمن في ثغور المرابطة أنه “تسلَّط بالتَّدريج على شؤون التَّعليم تسلُّطَه على شؤون التَّدبير، ومع ذلك لم يتصدَّ طرف الفقهاء إلى هذا المظهر التَّسيُّدي الناجم عن تسلُّطه، بل دخلوا في خدمته، اقتداء بكل العلماء الذين يطلق عليهم، في سياق البحث التاريخي، اسم فقهاء السُّلطان الذين تميَّزت بهم أنظمة الحكم الوراثيَّة الإسلاميَّة” 7

لنحاول الخروج عن دائرة الذاتيَّة بعض الشيء لنرى مدى جدوى هذا التحليل! ألم يوضح ميشيل فوكو في عديد من مؤلَّفاته، أن السُّلطة والمعرفة في أي نظام لا يمكن فصلهما؟ قام تحليل فوكو مرارًا على توضيح مدى أهميَّة التعليم باعتباره أحد الوسائل الأساسيَّة التي تستخدمها السُّلطة أيًّا كانت لتعزيز النِّظام، وأضحت بناء على هذا، الجامعات والمدارس، مؤسَّسات تشكِّل منظومةً معرفيَّة تحدِّد ما يعتبر حقيقة وما يعتبر جهلًا.

وهذه الممارسات، لم يتم التعبير عنها وفقًا لتحليل فوكو، بأنها مظاهر (إستبداديَّة تسيُّديَّة) بل كانت مصمَّمة بشكل يحافظ على تشكيل السُّلوك الاجتماعي والسِّياسي، بما يتخالف مع الفوضويَّة، فطه عبد الرحمن، كما يتَّضح، هو ضد أي نوع من أنواع الهيمنة على التعليم، لكن لا يقدِّم مثالًا أو تحليلًا لضريبة مبدأ (الفصل بين السلطة والتعليم) كأن تَضمُر قدرة (الدولة) على فرض الانضباط الاجتماعي، فهو منشغل بالمعارضة، لا بالتحليل، أو إعادة تقييم هذه المعارضة، ويتجاهل بشكل ما أنه يدافع عن مفاهيم مثل الحرية الفردية، تفكيك الهياكل السلطوية، والحريَّة الأخلاقية.

ومع أن موضوع أشكال الحكم أعقد بكثير ممَّا ذُكر، تريد النظرة الذاتيَّة لطه، أن تنحصر ضمن إطار ضيِّق، فهو يتصوَّر أن موضوعًا مثل هيمنة السلطة على التَّعليم في دولة ما، إنما تحليله يكون بربط مفاهيم مثل (فقهاء السلطان) بمفاهيم مثل (أنظمة الحكم الوراثيَّة الإسلاميَّة) بهذه السَّطحية فقط، يكون التَّحليل!

مع أنه في أعلى مراحل الثورات التَّحرُّريَّة، التي تُوِّجت بمقولة “سنشنق آخر ملك، بأمعاء آخر قسِّيس” لم يتخلَّص التَّعليم من الهيمنة السُّلطويَّة بسقوط الكنيسة والنظام الملكي (التَّسيُّدي)، بل أضحت المدارس والمناهج التَّعليميَّة أداةً لتدريس مفاهيم وأفكار جاءت مع عصر التنوير، فتحوَّلت هذه الأفكار بحكم أنها طرق متطوِّرة إلى أدوات سلطويَّة لضبط المجتمع والفرد.

الكلمات والأشياء لميشيل فوكو
الكلمات والأشياء لميشيل فوكو

ومع تطوُّر أدوات الهيمنة هذه حتى نشوء المدارس، والجامعات، أضحت هذه الأدوات التي أفرزها (عصر التنوير) وسيلة ناجعةً لتشكيل أجيال تخضع لقيم وأفكار تخدم مصالح السلطة، بجعلها مترسِّخة في المجتمع، وصارت هذه المؤسسات التعليميَّة، أدوات تعمل على إنتاج أفراد منضبطين، بشكل يتطابق مع المعيار الذي تحدِّدُه السُّلطة، فصارت المدرسة أحد أول الأدوات التي ترسِّخ التَّنشئة على القيم الوطنيَّة مثلًا.

بل صارت المدرسة نفسها ذات بنية متعلِّقة بالهيمنة في أعلى صورة لها، حتى أن فوكو قام بتشبيهها بمؤسسة عقابيَّة، ومورست الهيمنة لا على الأفكار والقيم وحسب، بل أخذت التَّأثير في الانضباط والالتزام بالمواقيت، واللِّباس الموحَّد، والطاعة، والعمل الجاد.

هل كان طه عبد الرحمن خاضعًا لهيمنة السُّلطة على التعليم؟

والطريف في الأمر أن طه عبد الرحمن، يأخذ صيته في العالم العربي بناء على أحد مخرجات هذه الهيمنة السُّلطويَّة على التَّعليم، أليس بروفيسورًا؟ إن مسألة التصنيف والتقييم، كانت دائما واحدة من الوسائل الأساسيَّة لفرض الهيمنة السُّلطويَّة على التَّعليم، فالتَّقييم براسب أو ناجح، نسبة المعدَّل السنوي، ومنح شهادة الباكلوريا، والماجستير، والدُّكتوراه، هي واحدة من المعايير التي تُحدَّد من قِبل السُّلطة في سياق ضبط الأفراد، بتدريبهم على التَّفكير وفقًا لنظام تعليمي محدَّد، والالتزام بمناهج بحثيَّة محدَّدة، بل وبقواعد معيَّنة لإنتاج المعرفة، وتقديم شهادات، وتحديد مواقيت دراسة.

image 6
كتاب فقه الفلسفة لطه عبد الرحمن

وفي كتابه له بعنوان (فقه الفلسفة) يوضِّح طه عبد الرحمن مدى خضوعه لهذه الهيمنة التسيُّديَّة على التعليم، يؤلف بصفته (د. طه عبد الرحمن) لا بصفته طه عبد الرحمن فحسب، فهو عند فورة شدَّته على التَّسيُّد السُّلطوي على التَّعليم، لا يزال يفاخر بكونه (دكتورًا) اللَّقب الذي تستخدمه مؤسَّسات السُّلطة لتحديد من هو مؤهَّل (لإنتاج المعرفة) بما يُشكِّل هرميَّة معرفيَّة مؤسَّسة من قِبل قِبَلها.

حصل طه عبد الرحمن على بكالوريوس من جامعة محمد الخامس، ثم سافر ليحصل على الدكتوراه في مؤسسة تخضع لهيمنة السُّلطة الفرنسيَّة في السوربون، ثم نال جوائز من وزارة الثقافة التركيَّة، مرتين، واحدة سنة 2021، وأخرى سنة 2024، ورحَّب بجائزة محمَّد السادس للفكر والدِّراسات سنة 2014.

أليس هذا يعدُّ انخراطًا في شبكات الهيمنة المعرفيَّة التي تسيطر عليها السُّلطة؟ إن قبول الجوائز المُقدَّمة من طرف مؤسسات الهيمنة، عبر آليَّة التَّقدير بالجوائز، يمثِّل أحد أنماط التَّعزيز للنِّظام المعرفي التي شكَّلته هذه الهيمنة، بجعل المثقَّف يمثِّل أحد الوحدات المساهمة في تشكيل بنية السُّلطة المعرفيَّة، وما جائزة (محمد السادس) التي رحَّب بها عبد الرحمن قبل أربع سنوات من تأليف ثغور المرابطة، إلا أحد أنماط توسيع شبكات الولاء بين المثقَّف والسُّلطة، إنَّه إنتاج للأفراد كذوات منضبطة، تخضع لقيم حدَّدتها السلطة وتحدَّدت بشكل رمزي في جوائز ملكيَّة.

لكن محاولة إصطناع معجم من المصطلحات الزائفة، مثل الفكرانيَّة، والأولاتيَّة، ونحو ذلك من محاكات الترجمات العربيَّة المبكِّرة للمؤلفات الفلسفيَّة لليسار الفرنسي في خمسينات وستينات القرن الماضي، يمثِّل أولويَّة لدى طه عبد الرحمن، من إعادة النظر لأبعاد التعرُّض للهيمنة السُّلطويَّة للمعرفة، وهو أحد أبرز مدَّعي الثقافة الذين شاركوا في توطيد هذه السُّلطة على التَّعليم.

المراجع

  1. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص76 ↩︎
  2. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص78 ↩︎
  3. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص78 ↩︎
  4. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص80 ↩︎
  5. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص80 ↩︎
  6. الدرر السَّنيَّة، ج9، ص93 ↩︎
  7. طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، مكتبة نوميديا، الطبعة الأولى، 2018، ص97 ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *