نزعة الاستقلالية المعرفية تبدو واحدة من أبرز النزعات في الأوساط العلمية، خصوصا فيما تشهده على مجتمع السوشل ميديا، كالقلق المستمر تجاه التفرّد، الاستقلالية، الانطواء المعرفي، ثم الإنتاجية المبرّزة تحت لواء الذاتية.
قلق مستمر
القلق لأجل الاستقلالية يمكن أن يكون معقولًا إذا نظرنا إلى من يطلق عليهم اسم المؤثرين، أو اليوتيوبر، الذين يتقمصون دور التبعية لجيل سابق من الممثلين، والمغنيين، لا بد أن يحققوا ”الشهرة“ الواسعة، التي تثبُت بها ”الذات“ وفي حين كان أحدهم قد اشتهر بديباجة وقصة شعر واهتمام معين بموضوعات ما، فليحقق التالي شهرةً، يجب ألا يوضع في محل الاتهام بـ ”التبعية“ للأول، فلكي يشتهر، يجب أن يحقق ذاته، ولكي يحقق ذاته، يجب أن يتفرّد، إنه التكريس المتعارف عليه في الأدبيات الرأسمالية بمسمى ”الفردانية“.
الأوحد وعالمه

كان المؤلَّف الرأسمالي، الواسع الصيت لماكس شتيرنر، الموسوم بالأوحد وعالمه، حريصًا على تأكيد عبارات من قبيل ”كن أنت نفسك، أثبت ذاتك، كن أنت ولا تكن غيرك“، ففي ذيوع الثقافات الرأسمالية، صار من يريد أن يكون إنسانًا رأسماليًا لا يحتاج لأي نفوذ اجتماعي لإثبات كيانه، وفي حال كانت مفاهيم اللا فردانية/ اللا ذاتية (بالمعنى الحداثي) قبيحة في السوق، فإن السوق لا يستهلك ما هو مألوف، ولن يوفر المقابل (الشهرة) لمن لم يخضع لقواعد تحصيلها الآنفة الذكر.
في الحقل المعرفي الواسع
في الحقل المعرفي الواسع، أيًا كان مجاله، هذه التركيبة الرأسمالية لا يؤبه لها أصلًا، ولا يوجد رجل علم غرضه العلم، أو رجل معرفة غرضه المعرفة، يفكر بذهنية السياسي أو الاقتصادي الرأسمالي، الذي يجب أن يتفرد ليحقق أنبل الغايات من وجوده، وفي هذا تاريخيًا شواهد لا تكاد تنحصر كثرةً.
فالحنابلة تبع لأحمد، والمالكية تبع لمالك، وليس شرطًا في الذي يريد تحقيق الغاية من تعلم الفقه أن يتفرد ويستقل عن مذهب يُنسب لأحد الأربعة! بل وقد كان أحمد يقول (لا تتكلم في مسألة حتى يكون لك فيها إمام) أي إمام سابق تكلم فيها. هنا تلحظ تبعية ابن القيم لابن تيمية في أكثر مؤلفاته، وتلقيب ابن أبي زيد بمالك الصغير، وهكذا، حتى أن من حققوا تاريخيًا ذلك الاستقلال الذاتي، لم يقصدوه لذاته، فلم يكن سعي دؤوب نحو ”السوق“ حينها، بل تحقق لهم بما تقتضيه مؤهلاتهم.
ولو توسعنا قليلًا إلى أكثر الحقول التي تحتفي بالبحث الفكري الحر، والنقد المتواصل، لا نجد فلسفة من الفلسفات إلا وكان أصحابها تبعًا لصاحب فلسفة، ولم نقرأ نقدًا مثيرًا تقوم فحواه على عدم استقلال (ريكاردو) مثلًا عن (آدم سميث) مع أن الماركسيين كانوا مولعين بنقد الرأسمالية.
ذات مرة، كان إنجلز يكتب بصراحة أنه لولا ماركس، لما توصل لأي شيء من أبحاثه الاقتصادية التي تنسب له، ولو فكر كل ماركسي أن يعيش تجربة (رأس المال) لتحولت الماركسية إلى فلسفة سخيفة وعبثية، متعددة بتعدد الفلاسفة التي تحتوي عليهم.
نفس الأمر يجري على أي مدرسة فلسفة، ولو فكر كل من دبّ بحرفين، وهبّ بفكرتين في أن يستقل معرفيًا، ذلك الاستقلال الفج الذي تكرسه شهوة الذاتية، ليتحول إلى علامة إشهارية برّاقة، من دونها لن تحقق غاية كبرى من وجود الشخص، لكانت المذاهب الفقهية على مر التاريخ بعدد الفقهاء، ولكانت الفلسفات بعدد الفلاسفة.
اترك تعليقاً