بين رواد الربيع الأوروبي، ورواد الربيع العربي!

د

صورة لتمثال كارل ماركس

قبل قيام الرَّبيع الأوروبي، ثورات 1848م، كانت أفكار ماركس الثَّوريَّة غير ناضجة، كان على وجه الدقَّة مهتمًا بالصِّراع السِّياسي ومهملًا للصِّراع الاقتصادي والطَّبقي، كانت أفكاره حينها تدور حول القمع السِّياسي، واستبداد الدُّول، وكان رؤياه متمحورة حول فكرة الثَّورة كحل سياسي، ولم تكن الثورة لديه، سوى وسيلة للإطاحة بالنُّظم الاستبدادَّية، وإقامة نظم تعيد للطَّبقة المسحوقة حقوقها.

كان اعتماده الأساسي في تلك المرحلة، على الفلسفة المثاليَّة الهيجليَّة، وكانت توفِّر له تأطيرًا جدليًا لفهم التغيُّرات التَّاريخيَّة، وحالت دون استيعابه للتَّناقضات الماديَّة والاقتصاديَّة داخل النِّظام الرأسمالي، فأضحى نقده قبل الرَّبيع الأوروبي، مركزًا بشكل أكثر على الأفكار المجرَّدة، مثل الحريَّة، والديمقراطيَّة، بدلًا من دراسة العلاقات الماديَّة، ومشاكل توزيع الثَّروة، والسُّلطة الاقتصاديَّة.

كانت انتقادات ماركس للدِّين، منطلقة من كونه أداة سلطويَّة، للتَّأثير في الشعوب، ولم يكن مستوعبًا بعد، أن الموضوع أعمق من الحديث عن السُّلطة واستخدامها للدِّين، لم يستوعب بعد أنَّ الموضوع متعلِّق بالأسس الاقتصاديَّة، التي مثَّلت دومًا البنيات التَّحتيَّة التي كانت تحدِّد شكل تفكير المؤسَّسات التي مثَّلت البنيات الفوقيَّة، ولم يكن الدِّين في نظره السابِق سوى بنية تحتيَّة مؤثرة في شكل المؤسسة السُّلطويَّة وخطابها، لم يكن يرى للدِّين في أوروبا، إلا بنية مغذيَّة لمصالح السُّلطات، وكانت هذه جزئيَّة من تصوُّرات ماركس السِّياسيَّة قبل ثورات أوروبا.

وقعت ثورات 1848، الربيع الأوروبي، وانتشرت في كل من فرنسا، إيطاليا، النِّمسا، المجر، وشهدت دول اضطرابات تأثرًا بالثورة، مثل سويسرا، وتوزَّعت قيادة الثَّورات على أيديولوجيَّات عدة، وجدت كل منها مطلبًا، اللِّيبراليُّون طالبوا بحريَّة الصَّحافة، والانتخاب، والتعدديَّة الحزبيَّة، والعمَّال طالبوا بتحسين ظروف العمل ورفع الأجور، والاشتراكيُّون طالبوا بتوزيع الثورة وتقليص سلطة الطبقات الحاكمة.

بدأت الثَّورات في فرنسا، العام الذي أصدر فيه ماركس البيان الشُّيوعي، وانتقل سريعًا إلى باريس للمشاركة والتأثير في الأحداث بالعمل في الصَّحافة الثَّوريَّة، ونشر العديد من المقالات، على أساس فكره القديم، ثم لمَّا قامت الثورة في ألمانيا، عاد إلى كولونيا، وعمل في صحيفة الرَّاين الجديدة، لتحفيز الوعي الثَّوري، وكانت مقالاته الصحفيَّة، الناطق الرَّسمي بلسان الطبقة العاملة هناك.

كان مؤدَّى كل الجلبة التي أحدثها، غلق السُّلطات لصحيفة الراين الجديدة، وطرده من ألمانيا، ثم نفيه إلى فرنسا، ثم إلى بريطانيا، وتلقَّى عزلة سياسيَّة حادَّة، وانعزل بشكل كامل عن العمل السِّياسي والصُّحفي، ولم يكن له خلال كل تلك السنوات مصدر دخل، سوى ما يرسله إنجلز له، ثمَّ ماذا حصل؟

بدأ سنة 1857 بصياغة مسودَّات الغرونريسَّة، أسس نقد الاقتصاد السِّياسي، ويحكي مارتن نيكولوس، أنَّ الغروندريسَّة، تمثِّل المخطَّط الوحيد لمشروع ماركس السيَّاسي الاقتصادي بكامله، إنَّها تكشف العناصر الأساسيَّة في تطوُّر ماركس وتجاوزه للفلسفة الهيجليَّة، عقليَّة ماركس قبل الرَّبيع الأوروبي وخلاله، فقد كانت 1848 مصدر اندفاعه في إعادة النَّظر في الأفكار القديمة، التي أثبتت فشلها.

ألَّف البيان الشُّيوعي خلال 1848، وشارك في ثورات 1848، ولم يبدأ في مخطوطات نقد الاقتصاد السيِّياسي إلا سنة 1857، أي بعد 9 سنوات من الفشل، ولم ينشر منها شيء، ثم أصدر الجزء الأوَّل من رأس المال سنة 1867، أي بعد 19 سنة من الفشل، فكيف كانت نسبة الأفكار القديمة بعد 20 سنة من الفشل إلى الأفكار الجديدة؟

تجاوز الهيجليَّة، وجل أدوات التنظير القديمة، حتى أعاد النَّظر في تحليل البنيات الفوقيَّة ونسبتها إلى التَّحتيَّة، وصار الاقتصاد السيَّاسي وتوزيع الثروات مجالًا غير مطروق وبدأ أثر هذا العامل يبرز في رأس المال بعد كل مسودَّة، طوَّر رؤاه حول نظريَّة القيمة، الفائض، والأجر، القيمة الاستعماليَّة، وفرقها عن القيمة التَّبادليَّة، تطوَّرت نظرته للطَّبقة الحاكمة، من فاعلين بوسائل دينيَّة وثقافيَّة، إلى جعل فاعليَّتهم متمحورة على بنيات أعقد تمثَّلت في وسائل الانتاج، ليبدأ الاقتصاد السياسي طريقًا جديدًا من التحليل والنقد والتنظير، أين كانت بريطانيا قوةً صناعية أتاحت فرصة لدراسة النظام المهيمن حينها.

وأسفرت فترة الدراسة تلك عن منجزات عدة نُسبت لماركس من حيث المبدأ، تحديد ساعات العمل وتحسين ظروفه، تحديد حد أدنى للأجور وإنشاء أنظمة ضمان إجتماعي، إلهام البلاشفة وتأسيس أوسع اتحاد دولي على خلفية أفكاره كتأميم وسائل الانتاج، وإلغاء الملكية الخاصة لها، وتطوير اقتصاديات مخططة مركزيًا كما في الصين بعد إلغاء الاقطاع وتوزيع الأراضي، إلهام حركات التحرر في آسياء وإفريقيا بتزويد الوعي الطبقي بشتى أنماط الاستغلال الاستعماري، والأمثلة على هذا الشأن لا تكاد تحصى.

المفارقة الساخرة، أنه قد مضى على انطلاق الربيع العربي ما يقارب 14 سنة كاملة، وكان فيه فاعلون كثر، من مدَّعي التفلسف، كما كان ماركس فاعلًا في الربيع الأوروبي، ثم ماذا طرأ؟ بعد 14 سنة كاملة، ما المراجعة التي قُدِّمت في مسألة واحدة تمس الاقتصاد والوعي السياسي؟

وقد كتب طه عبد الرحمن سنة 2007 أنه يعتبر الحزب اللبناني تجسيدًا لحداثة وجودية في العالم الإسلامي، ولم يفتِّش خاطرَه بعد رؤياه لهول ما يقع في جنوب لبنان أن يتقعَّر بعض الشيء، لعل الحزب بعد 17 سنة من دخوله الحداثة، قد جلب إلى لبنان (ما بعد الحداثة).

وكان المرزوقي مع بداية الإبا/دة على أهالي غز/ة، يدعو لثورات عارمة لاستئناف ما أسماه بـ “الربيع العربي” ولكن لا يفكر أذكى هؤلاء في التأمل ساعةً، مجرد ساعة، في ضرورة التقييم النقدي، أن تعيد بعد 14 سنة من الهزائم نفس شروطها! أن يكون الملحد الذي لا دين له، يجلس لما يقارب 20 سنة، لإعادة النظر في أفكاره السياسية الفاشلة، بخلاف منظِّرينا، إنه لأمر يدعو لكثير من السخرية!

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *