يعتبر كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) لمؤلفه الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) والذي طبع سنة (1961) عمله الأساسي الأول، إذ يتميَّز عن بقيَّة مؤلفاته بأنه كان في الأصل أطروحة الدكتوراه، من جامعة السوربون، وكان ذلك تحت إشراف أحد أبرز فلاسفة العلم في الأكاديمية الفرنسية وهو جورج كانغيلم، الذي كانت له مساهمات في تاريخ العلم والطب، منها كتابه (مقالة في تاريخ البيولوجيا)، والذي صدر سنة (1952).
خلفيَّة بحث مسألة الجنون

إن كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) متسق تمام الاتساق مع كتاب مشرفه جورج كانغيلام، الذي يحمل عنوان (دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها) ذلك الكتاب التي يسلط الضوء في أحيان كثيرة على تطور العلوم تاريخيًا وتطور مواضيع بحثها بما يوصل إلى النتيجة القائلة بأن العلم الطبي، ليس ثابتًا أو موضوعيًا، بقدر ما هو متأثر بعوامل عدَّة منها السلطة، والسياقات الاجتماعية والثقافية فإن النظريات التي تفصل العلم عن القيم الإنسانيَّة، كانت محلًا للنقد عنده، لصالح النظرية التي ترى تداخل العلم مع السياق الاجتماعي والثقافي.
لقد ألهمت أطروحات جورج كانغيلم ميشيل فوكو، ولم يعد مجالًا غير مطروق أن يتعلق اهتمام فوكو بتطور العلوم بنفس الوتيرة التي درج عليها فلاسفة العلوم، وبهذا أدت الضرورة لبحث مواضيع العلوم وتطورها بنظر العلوم، فجاءت أطروحة تاريخ الجنون، لتشرح تطور إحدى مواضيع العلم (الجنون) تاريخيًا.

تحليل البنيات الاجتماعية والطبية – تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي
لا تقوم أطروحة ميشيل فوكو على اتخاذ معيار صارم لتعريف الجنون، أو ضبط مفهومه، على العكس، يرى أن الجنون لا يحمل أي معيار ثابت عبر الأنساق الاجتماعية المتتالية، وإنما يتخذ مفهومه، بناء على سياق كل مرحلة من مراحل التاريخ، إن الأطروحة التي يقدمها، تريد أن تشتت مفهوم الجنون بإيرادات متظافرة حول مفاهيم عدَّة له من التاريخ الأوروبي، تارة كان الجنون متعلقا بالجذام، تارة تعلَّق بالزهري، وتارة تعلق بأمراض تناسلية، حتى أنه تعلَّق في أنساق أخرى بمسائل اجتماعية مثل التسوُّل، ولم يحافظ مفهومه خلال كل هذه المراحل على أي قدر مشترك مثلما حافظ فقط على بنياته الاجتماعية والطبية.
كان يقصد فوكو بتلك البنيات؛ تلك المكونات غير الملموسة، أي الأنظمة العميقة والخفية التي كانت تشكِّل وتحدِّد مفهوم الجنون وكيفية فهمه والتعامل معه، فهي تحدد من هو المجنون، وكيف يجب التعامل معه، ودور المؤسسات سواء كانت مصحَّات أو مستشفيات أو معتقلات تجاهه، فالبنية هنا هي كل النظام الطبي.
وبناء على ثبات هذه البنيات تاريخيا، يضحى مفهوم الجنون متغيرًا، وقد يحقق قطيعة بين حقبة وأخرى، لكن البنيات تبقى ذاتها، تلك الأنظمة الطبية، التي كانت تعبِّر على الدوام عن سلطة، تقوم بممارسة كل مهامها -التي تفترض أنها نتاج تبرير علمي- على البشر الذين تصنِّفهم كمخالفين للنظام العام. إذن، تقوم أطروحة هذا الكتاب على بحث تطور مفهوم الجنون محايثًا لبحث تطور هذه الأنظمة الطبية (البنيات) في مواقفها وممارستاها تجاهه.
الجنون تحت سلطة الكنيسة وفق ميشيل فوكو
يرى ميشيل فوكو أن الجنون كان ينظر له في مراحل العصور الوسطى على أنه حالة جماليَّة، حالة يجري التصرف معها بمعزل عن التفكير العقلاني الذي لحق فيما بعد، لم يكن حالة طبيَّة أو نفسية، بل كان يفسَّر من خلال منطق أخلاقي ديني، أو بالأحرى منطق صوفي كنسي، يجمع بين البعد الديني، والتقليد الشعبي، ذلك التقليد الذي هيمنت عليه أمثال وحكم، كثيرًا ما ربطت الجنون بكونه مسًا شيطانيًا أو عقابًا إلهيًا، أو نعمةً روحانية كتلك الحالات التي جرى فيها تناول مجانين على أنهم متميِّزين بنوع من الاصطفاء القدسي كمجاذيب أو بهاليل كما كان يطفح في الأوساط الصوفية.

المعرفة الطبية سلطة
إن السلطات المخول لها تحديد ما هو الجنون، وكيفية التعامل معه، سلطات غير طبية بالمفهوم الذي نعرفه عن الطب سواء الحديث أو التقليدي، لكنها كانت تكتسب هذه (السلطة) لا من جهة حكوميَّة بالضرورة، بل من كونها الجهة التي أنشأت المعارف المتشعبة حوله، فالكنيسة الكاثوليكية، كانت إحدى أبرز المؤسسات التي سيطرت على تفسيرات الجنون وعلاجه، وكثيرًا ما جرى تفسيره على أنه مس شيطاني، أو عقاب إلهي، ولم يكن التعامل معه يتم إلا من طريق رجال الكنيسة وعبر الأديرة.
كان يخضع الشخص الذي يخالف القواعد والتفسيرات التي تضعها الكنيسة حول الجنون لما أسماه فوكو بالتصنيف، ثم القمع، ثم العزل، بصفته فردًا مهددًا للنظام العام، ذلك النِّظام الذي وضعته نفس تلك السُّلطة التي لاقت شرعيَّة من طرف المؤسسَّة الحاكمة من ملوك ونبلاء، وحتى من طرف المجتمع الذي تشرح الكنيسة أنها تحميه من بعض المتطفلين عليه بغية إفساده (المجانين).
هل يشرح فوكو في (تاريخ الجنون) مفهوم السلطة؟
إن ميشيل فوكو لا يشرح في هذا الكتاب مفهوم السلطة وكيفية تشكُّلها نظريًا، بل يشرح ذلك في كتاب آخر، وهو مؤلَّف (إرادة المعرفة) كما لا يشرح بشكل تفصيلي الجانب النظري الذي يبرِّر تطبيقه لهذا التحليل على تاريخ الجنون، أعني بالتبرير تلك النظرية التي يفرِّع عنها في كتاباته التاريخية، التي تتسم بتحليل الأنظمة العميقة وغير المرئية التي تشرف على تنظيم وهندسة الأفكار وهي التي يطلق عليها وسم (البنيات)، كالمهاجع والمراكز الطبية في هذا الكتاب، والسجون في كتاب آخر له بعنوان (المراقبة والمعاقبة)، وإنما يضع الأسس النظرية لكل التطبيقات التي سلكها مع هذه المسائل في عمل تأسيسيٍّ آخر، وهو كتابه (الكلمات والأشياء)، وبالتالي لن نتعرض بشكل تفصيلي للأسس الفلسفية لمنهجيته في التاريخ، وإنما سنكتفي بعرض وتحليل أهم أفكار هذا الكتاب.
تصنيفات الجنون في العصور الوسطى – بين العزل والقمع وفق ميشيل فوكو
كانت تصنيفات المجانين في مرحلة العصور الوسطى ذات معايير تبنَّتها الكنيسة تطبَّق على الأقوال والسلوكيَّات والمظاهر، وكانت تنطلق من معتقدات الكنيسة حول الروح، والعقل، والخطيئة، وكان تحديد الجنون مبنيًا على وقوع فرد في تصرفات مثل الصراخ بدون سبب، أو حصول تشنُّج عضلي، أو أن يضحك بشكل مفرط، أو يتجول في الشارع من دون هدف، يظهر تصرفا غير طبيعي تجاه مكان، أو يشكك في العقائد المسيحية، كأن يكون مهرطقًا، أو يرفض حضور القدَّاس، ينعزل عن المجتمع، أو يتصرف بخلاف دوره الاجتماعي المتسق مع وضعه، أو أن يكون الشخص معانيًا من نوبات صرع، أو تشوه جسدي، حركة مفرطة، أو خمول مفرط، وقد كانت ذي التصرفات يجري تصنيف أصحابها بشكل مباشر كممسوسين.

كانت الأصناف السابقة توضع ضمن تصنيف رئيسي وهو (الجنون)، كان أصحابها مجانين بتعبير الكنيسة، ولم يكن ذلك كافيًا، بل صار يتعرض بالعزل لكل فرد يشمله التصنيف، ومثَّل العزل بنيةً بتعبير ميشيل فوكو، وهو الأمر الذي سيستمر حتى مع تغيُّر مفهوم الجنون كليًا كما سيأتي لاحقًا، وبهذا كانت الكنيسة تفصل المجنون الذي جرى تصنيفه بهذا الشكل بناء على أبحاثها، عن المجتمع الذي يجب أن يحافظ على بنية النظام العام، ذلك النظام الذي كانت تحتكر الكنيسة سلطةَ تحديده أيضًا، بفرض ما يسمى بتجنُّب العدوى الأخلاقيَّة.
وعمليَّة العزل كانت تجري في الأديرة، أو في مصحَّات معزولة، وأحيانًا في أماكن نائية، وكان المعزولون، محرومون من التواصل مع الآخرين، مقيَّدين جسديًا، بالسلاسل أحيانًا، أو في حبس مغلق، ويُطعَمون أقل القليل، وتهمَل نظافتهم ورعايتهم الصحية والنفسية أيضًا.
ثمَّ تأتي مرحلة القمع، والتي سيجري فيها استخدام العنف بنوعيه الجسدي والمعنوي، كالسجن، والجلد، والتقييد بالسلاسل كما سبق، إن هذه الوسائل كان يجري التعامل بها لا من باب العقاب، فذلك متعلِّق بمن أجرم، وإنما كان يعتقد أنها أدوات لطرد الأرواح الشريرة، بغية تهذيب المجنون، وأحيانًا ما يجري وضع المجنون في قفص علني، ويطاف به، بغية السخرية أو التحذير من سلوك المقدِّمات التي أوصلت لحالته، كأسلوب كنسي توعوي، وكان القمع الرمزي حاضرًا في كل الأحوال، بربط حالة المجنون بالشيطنة، لتأكيد سلطة الكنيسة.
أي أنَّه كان يجري تصويره في قالب خطيئة، أو في قالب شيطاني، كمن هو مضطر لتدخُّل الكنيسة لانقاذ روحه من الخطيئة. إن تحليل ميشيل فوكو لكل هذه المرحلة، يشير إلى قاعدة سيجري التعامل معها على طول خط الكتاب، وهي أن المجنون إنسان، وجنونه تجربة إنسانية، وعقله الذي سلبته الكنيسة بدعايتها، هو أحد ألوان العقل التي لم تعترف الكنيسة بها، بالتالي فإن التصنيف والعزل والقمع، وهو الموضوع الذي سيتصاعد بشكل شعبوي في السنوات الأخيرة تحت عبارة (الاقصاء)، كان بالنسبة لفوكو ممارسة ضدَّ إنسان مختلف بعض الشيء عن السلطة لا أكثر.
رحلة المفهوم من الجنون إلى الاختلال العقلي
وعند انتهاء مرحلة العصور الوسطى، ظهور المدارس العقلانية لتتسلَّط على مختلف المجالات التي كانت تحت سلطة الكنيسة، يتغير مفهوم الجنون بشكل كامل، ويحقق قطيعة مع كل من: تعريف الجنون، وكيف نتعامل معه؟ والذي كان يؤخذ كمُسلَّمة في العصور الوسطى، لكن البنية بقيت تحافظ على مكانتها، وعوض رجال الدين، كان البديل البنيوي متمثلًا في الفلاسفة والعلماء، وبدل الأديرة ومعتقلات العزل، نشأت المصحَّات السريريَّة، وعوض تفسير كل اختلاف على أنه جنون، نشأ التفسير على أساس (العقل) فالنَّسق صار (عقلانيًا) بدل النَّسق السابق (ديني) فلم يعد الجنون خطيئة أو شيطنة، وإنما صار (مرضًا عقليًا)، أي انتهت مرحلة اعتبار الجنون تجربةً جماليَّة، وصارت تجربة لا عقلانيَّة.
عصر العقل، ذلك العصر الذي بدأت تغير البنيات فيه من مفاهيمها، وصار كل من (التصنيف/ العزل/ القمع) يجري وفق معايير عقلانيَّة، وقلِّصت حالات الجنون بشكل ملحوظ، باعتبار كثير من مواضيعه مثل نوبات الهلع، والتشنجات، ونحوها، مجرَّد اضطرابات قابلة للعلاج، لكن بقي تصنيف الفرد الذي لا يتناسب مع ما تفترضه الأوراق العلمية لدى فلاسفة عصر النهضة، وعوض عزل وقمع المرضى العقليين (المجانين الجدد) صاروا يعالجون سريريًا، لقد بقي العزل لكن في صورة غير كنسيَّة، لقد حافظ عصر النهضة على نفس البنية، ولكنَّه عادى التصرفات الكنسيَّة، لقد نسج مفاهيمه الجديدة من الفلسفة، ولكن حافظ على نفس البنيات الكنسيَّة.
تحوَّل الجنون إذن، من كونه كيانًا مظلمًا إلى كونه مرضًا عقليًا، لقد عكس هذا التحول مدى هيمنة النظام العقلي، والذي بدوره حاول كما كانت الكنيسة تفعل؛ فهم وتصنيف كل شيء وفق معاييره، والتي وسمها بأنها عقلانيَّة ومنطقيَّة وعلميَّة، ولم يعد سمة عار، بالعكس، صار مجرَّد اضطراب قابل للعلاج، لكن ألا يستدعي هذا العلاج عزلًا للمجنون؟ نعم، وعليه رأى ميشيل فوكو، بقاء امتداد عمل نفس البنيات القديمة.
وخلال الفترات الممتدة من القرن 16 وصولًا إلى عصر النهضة، كان الجنون يمثل كيانًا تُصرَف له مدينة بأكملها، وهي مدينة تمثل عالمًا رمزيًا للغياب والليل، ومع تحوله فيما بعد إلى مجرد مرض عقلي، أصبح يفسَّر من خلال منطق طبي، وبالتالي، فإن محاولات الفكر العقلاني الحديث في السيطرة على الجنون، من خلال العلاجات القسريَّة والمصحَّات العقلية، لم تكن لتؤدي إلى القضاء عليه.
بل كانت في الحقيقة تكرِّس تعزيز العزل الاجتماعي أكثر وأكثر، متجاهلةً البعد الإنسانيَّ فيه بتعبير فوكو، وهي ما كان يسميها “أقصى حالات الإكراه” وهي التي أدَّت إلى انفجار رمزي عكس عجز النظام العقلاني، بقمع ما لم يقدر على السيطرة عليه، فإن كان الضغط المستمر على الشيء الطبيعي يولِّد حالةً من الاحتقان ما يؤدي إلى انفجاره، فكذلك كانت محاولات إخضاع الجنون للعقلانيَّة المطلقة أنتجت نتائج عكسيَّة.
نقد ميشيل فوكو للعقلانية – إعادة تعريف الجنون عبر الأنساق التاريخية
خصص ميشيل فوكو جزء واسعا من كتابه في نقد المحاولات العقلانيَّة للسيطرة الكاملة على الظواهر الإنسانيَّة، كالجنون، لم يكن مرتاحًا تجاه التنظيم، أو فرض نمط معيَّن لما هو إنسان طبيعي، أو وضع تعريف معيَّن ثابت، لما أسماه بالجنون، كان مأخذه على عصر النهضة، العصر العقلاني، أنه كان متطرِّفًا في العقلانيَّة إلى الحدِّ الذي لم يسمح فيه بتوافر تجارب إنسانيَّة غير خاضعة لمفهوم رجالات ذلك العصر عن العقلانيَّة، وكرَّرَ مرارًا أن هذه التجارب، التي يجري تصنيفها كجنون، كان يفترض أن يجري فهمها ضمن إطار إنساني أوسع وأعمق، بدلًا من اختزالها إلى مجرد حالات مرضيَّة.
ويرى أنه ما دام النظام يقمع أو يعزل أي نوع من أنواع الجنون، فإنَّه يُفقِدنا القدرة على فهم الدروس التي يعلِّمنا إياها عن حدود النظام والعقل، وعن الطبيعة المزدوجة للوجود الإنساني. فلمَ لا يكون العاقل وفق منطق عقلانيي عصر النهضة، معزولًا لصالح المجنون، فيُقلَب النظام؟ يقول فوكو أن هذا مكفول تاريخيًا، فكل النظام العقلاني هو جنون بنظر النسق السابق له، الكنيسة، إنه هرطقة.
وكذلك العصر الكنسي كثيرٌ من مظاهر العقلانيَّة فيه، هي جنون بنظر عصر النهضة، إلا أن من وسمه الكنسي والنهضوي بالمجنون، لم ينل حقَّه في تصنيف من صنَّفوه، بهذا هو يشتت مفهوم الجنون، لا يريد عكس القاعدة، وإنما يريد بإثبات هذا التباين في المفاهيم بين هذه الأنساق على اختلافها، إلغاء التعامل مع الحالات الإنسانيَّة المختلفة على أساس أنها حالات مجنونة تتطلَّب عزلًا وقمعًا.
ربَّما اكتفينا من قراءة الكتاب لتاريخ أوروبا، فليقرأ حاضر أوروبا هذا الكتاب!
عندما نخرج من قراءة كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، متَّجهين إلى قلب الآليَّة لتعاطي الكتاب رأسًا على عقب، سنجد نتائج عدَّة مفاجئة، فليس شرطًا في دراسة كتاب، أن ينكفئ القارئ على قراءته، بل الاستثمار المعرفي الحقيقي يكمن في توجيه الكتاب إلى قراءة الواقع أيضًا، ليكون نقد الواقع، أو تحليله، أكثر اتساقًا مع الجذور المعرفيَّة التي أدَّت إليه.
ألا يكثر الحديث عن فاعليَّة المصحَّات النَّفسيَّة؟ إن كلًا من القلق المفرط، والاكتئاب الحاد، واضطرابات الهويَّة، يجري اختزالها اليوم في تصنيفات طبيَّة تدار من داخل المؤسسة العلاجيَّة، وكثيرًا ما يجري تجاهل السياقات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تساهم في ظهورها، وعوض أن يجري حلُّ هذه القضايا علاجيًا بمجردوصفة طبيَّة، يفترض أن يجري النظر في الأسباب الجذريَّة التي أدَّت لمثل هذه الحالات التصنيفيَّة.
فإن ضغط النظام الرأسمالي مثلًا، يحيل إلى توجيه دفَّة النقاش إلى مسألة تغيير نظام اقتصادي لحلِّ مسائل إنسانيَّة مثل الاكتئاب الحاد، بدل تصنيف الحالة على أنها مرض عقلي، ومن ثمَّ عزلها سريريًا، وتقديم الدواء العلاجي لها، فهذا ما يجعل ظواهر إنسانيَّة طبيعيَّة تكشف بؤس واقع أو نظام، مقتولةً سريريًا وعلاجيًا في المصحَّات، بدل أن تجري التعامل معها على أنها حالات إنسانيَّة متقدِّمة كشفت وقائع ضارَّة أو غير نظم غير سليمة للإنسانيَّة ككل.
ماهيَّة السُّلطة السريريَّة
ما هي السلطة السريريَّة التي نتحدَّث عنها هنا؟ في كتابه (ولادة العيادة) يشرح ميشيل فوكو الموضوع بالتفصيل، ويمكن إيجاز القول أنَّها نموذج جديد للسلطة ظهر في مرحلة ما، يتميَّز بصفات معيَّنة: الملاحظة المباشرة والتشخيص حيث يُمنَح الطبيب سلطة شاملة على المريض، وتضحى علاقته به ليست إنسانيَّة، بل علاقة هيمنة فيكون للطبيب وحده الحق في تفسير الأعراض وتحديد العلاج، حتى وصف ما هو طبيعي أو شاذ.
عندما نعكس هذا المفهوم على واقعنا المعاصر، أين يتجسَّد ميشيل فوكو؟ إن الشركات الكبرى لمواقع التواصل تلعب نفس اللعبة، مستشفيات ومصحَّات تستخدم نفس البنيات: التصنيف والعزل والقمع، لتحديد هويات المستخدمين وإخضاعهم لأنظمة رقابة أدق من تلك المصحَّات.
وبهذا تحولت التكنلوجيا المتوافرة في وسائل التواصل إلى سلطة سريرَّة فعليًا، تفرض الخورزميات باعتبارها معايير موضوعيَّة تحتكر سلطة تحديد ما هو مقبول وما ليس بمقبول، ألم تتجسَّد نفس البنيات، عبر العزل والتصنيف والقمع مع الجنون لأجل الحفاظ على (النظام العام)، وهكذا تجري الشركات الرقميَّة نفس الموضوع لحفظ (معايير المجتمع).
فهي تصنِّف الخطاب المخالف لرؤى الشَّركة باعتباره خارج المعايير المقبولة اجتماعيًا، إنه جنون، يُعزَل صاحبه، بحيث يجري تقييد حسابه، ويُمنَع (جنونه) الذي خالف معايير النظام العام من الوصول إلى باقي المجتمع، تقلُّ المشاهدات، والاعجابات، والمشاركات، يُمنَع من نشر الصُّور، ومن البث المباشر أحيانًا، وقد يُعاقب بحظر حسابه لمدَّة كما كان يُعزَل في الأديرة ويُقمَع معنويًا مدَّة ريثما تنفكُّ عنه الأرواح الشريرة. إنَّ نفس تلك البنيات لا تزال مستمرَّة وبشكل أكثر دقَّة.

إن مفهوم الجنون هو ما تغيَّر إذن، لقد كانت مخالفة معايير المجتمع في القرون الوسطى، متمثلةً في حالات الجنون التقليدي، الهرطقة، ومختلف ظواهر الخروج عمَّا تفترض الكنيسة أنه “نِظام”، لقد تحوَّل كل ذلك عبر العصور بشكل جد ساخر، لقد قُلِبَ النِّظام كليًا وأضحت البنيات في يد المجانين السابقين، والعقلاء السابقون أضحوا مجانين اليوم، لقد قُلِبَ النظام كليًا، حتى إن ميشيل فوكو، كان سينبهر لما لاقته أطروحته مع مثل هذا القَلب!
الشذوذ الجنسي – من التصنيف كجنون إلى الحرية الشخصية وفق خطاب السلطة
ألم يكن الشذوذ الجنسي أحد المظاهر الجنونيَّة؟ يحكي ميشيل فوكو، أنه في العصر الفيكتوري (وهو ما يفصِّله بشكل واسع في كتابه – تاريخ الجنسانيَّة) كان يُنظَر للشذوذ على أنَّه جنون، إنَّ الشاذ يجب أن يُقمَع، يُصنَّف أولًا ثم يُعزَل، ومن ثمَّ بدى عصر النهضة أكثر التزامًا ما سيأتي لاحقًا، لكنَّه قلَّص كثيرا من حالات الجنون، فمثل الحُبِّ المفرط (قصة مجنون ليلى مثلًا في تاريخنا العربي) لم تكن تعتبر جنونًا إبان مرحلة النهضة، لكن بقي الشذوذ على نفس الخط، إنَّه حالة جنونيَّة، وبالتالي هو حالة غير عقلانيَّة، غير إنسانيَّة، إنه خروج عن كل معنى من معاني الإنسان الخاضع للنظام العام، إنَّه اللا إنسان، واللا نظام، واللا عقل، حالة متطرفة من حالات الجنون، تفرض نهاية الوجود الإنساني رأسًا لو تبناها كل البشر!
عصر النهضة، الذي لحقه عصر العلم، وعصر التطور الطبي، والكشوفات، بقي قرونًا على تصنيف الشذوذ كحالة مرضيَّة، بطبيعة الحال لم يجر تصنيفه جنونًا، فالنسق غير كنسي، ولم يُصنَّف أيضًا على أنَّه مرض عقلي، فليس مجال العقلاني من يمارس السلطة هنا، عادت المصحَّات ومنظَّمات حقوق الإنسان لوحدها من تتعامل مع التصنيف بسلطويَّة، وفجأة، يتحوَّل الشذوذ بصفته مرضًا، إلى كونه حريَّة شخصيَّة، لكن كيف جرى ذلك؟
إنه خطاب السلطة، وحده الخطاب الكفيل بتحويل ما يعتبر جنونًا إلى ما يعتبر معقولًا، لقد أضحى مفهوم الشذوذ مرتبكًا، أفي دائرة الجنون سيكون؟ أم في دائرة الطبيعي؟ أخرجت مراجع الطب عالية الدرجة تصنيف (الشذوذ) من الحالات المريضيَّة، فلم يعد الشاذ مهددًا بالتصنيف، يُمنَع وفق معايير التواصل الاجتماعي، وفي دول أوروبا، وفي أمريكا، وكندا، وغيرهم، أن يقال لمن هو شاذ: كلمة شاذ، يجب ألا يقال له إلا كلمة: مثلي، لقد صار طبيعيًا وفق السلطة التي كانت تصنِّفه غير طبيعي.
إعادة قلب التصنيفات – من عزل الجنون إلى قمع نقد خطاب السلطة
بل وصل الموضوع إلى حالات متطرِّفة في عدم تصنيف النماذج الجنونيَّة، إلى مرحلة تقبُّل المجتمع لوجود حتى (المستكلبين) وهم كلاب بشريَّة، أي أناس يختارون التصرُّف ككلاب يُربَطون من جهة العنق بحبل، ثم يجري تسليمهم إلى أناس آخرين، يقومون بالتجوُّل بهم في الشوارع، لقد رفع التصنيف والعزل تمامًا إلى مرحلة صار فيها الاختلاف المتطرف غايةً، فالمشرقي لو عبَّر عن مثل هذه الحالات بقوله: هذا جنون، أو هؤلاء مرضى نفسيون، سيقال له: على أي أساس؟ أنت تقوم بقمع وعزل أحد ألوان الإنسانيَّة، وقد يُلاحَق قضائيًا، فيضحى هو المعزول حينئذ.
خطاب السلطة الرقميَّة كآلة قمعية!
لكن، هل صار الشذوذ طبيعيًا فسحب؟ كلا، بل قُلِبَت المعادلة كليًا، وصار التصنيف على أساس (العزل) يتعرَّض له ذلك الذي يصف الشذوذ بأنه سيء، صار هذا الفرد، بناء على خطاب السلطة، أولى بالعرضة للتصنيف والعزل والقمع والاقصاء والتجويع حتى، فمثلًا من يمتلك صفحة عمل تجارة إلكترونيَّة، وسمح لنفسه أن يتعرَّض للشذوذ بأي تعبير مخالف لخطاب تلك السلطة التي تحدد معايير المجتمع، سيتعرَّض حسابه الإعلاني للغلق، وقد تمنعه شركة ميتا من ممارسة التجارة نهائيًا على أرضيَّتها الرقميَّة، ولو كان يمارس ذلك بأمواله.
وهكذا، يتفاجأ كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لميشيل فوكو، بقوَّة الدويِّ الذي لحق انقلاب السلطة وخطابها على المفهوم، حتى أن الغرض من هذا الكتاب وهو أنَّ مختلف الأنواع غير المرغوب فيها والتي كنتُم تصنِّفونها كمجانين، عليكم فقط أن تتقبَّلوها، بات كلاسيكيًا مقارنة بالحالة التي وصلت إليها شركات مواقع التواصل اليوم، فإنَّ من لم يتَّفق مع البنيات في مجرَّد تسمية هذا الأمر، ووسمه عوض (المثلية) بـ (الشذوذ) فإنه يتعرض لما كان يُتعرَّض له المجنون في عصور قديمة. في مدينة معزولة تسمى مدينة (المحضورين) تأوي كلَّ من تعرَّض للشذوذ، والتحوُّل، والنسويَّة، ونحو ذلك، منعزلين، مقموعين، مصنَّفين كعناصر مخالفة تعمل ضدَّ النظام العام.
ومع ذلك، تنشر “هيومن رايتس ووتش”، و”سمكس”، و”مؤسسة أنسم للحقوق الرقمية “، و”حلم”، و”جمعية دمج” عنوان: “ميتا: احموا مجتمع الميم-عين من الاستهداف الرقمي”. مع أن ميتا تعمل حاليًا على تصنيف وقمع وعزل ذوي الخطاب المقابل على نفس النسق الذي كان يتعامل به الجنون بمفهومه القديم في عصور متقدِّمة، فمن يقدِّم لهؤلاء حماية حريَّتهم في التصنيف؟ ثمَّ من أعطى هذه المصحَّات –بتعبير ميشيل فوكو- السلطة أساسًا لممارسة التصنيف؟
في دراسة لبالوما باتاتشارجي 2014 يقول شارحًا عمل ميشيل فوكو “إن ممارسات استبعاد بعض أفراد المجتمع، وحرمانهم من امتياز عيش حياة تعادل حياة بقية أفراد المجتمع، وقمعهم تحت وطأة هوية قمعية، كانت سائدة على الدوام في المجتمع. ونحن ندرك هذه الممارسات عندما تدخل معرفتها إلى خطابنا” نفس هذه العبارة التي قالها مرافعًا عن شواذ العصور الوسطى، تنسحب اليوم بكل لوازمها على من يصنف الشذوذ كخطأ، أو من يطلق على الذكر كلمة تمييزيَّة (أنتَ/ هو) قبل أن يتأكد عن اختياره، ثم تحدِّثك ذي الدراسات عن بشاعة (الهويات القمعية)، فميشيل فوكو جرى استشفاف نخاع عظم كتابه كما نرى إلى الحد الذي صار فيه الطبيعي مجنونًا مُصنَّفًا مقموعًا.
من أعطى المصحات هذه السلطة تاريخًا إلى اليوم؟
يشرح التدفُّق التاريخي في كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسكي لميشيل فوكو، أنَّه بدون المصحَّات التي تتعامل مع الجنون تاريخيًا، بداية من الأديرة، وصولًا إلى عيادات الطب النفسي، سيكون المجتمع مضطرًا لإيجاد طرق جديدة لكي يتعامل مع (الاختلاف) دون أن يلجأ إلى العزل أو الاقصاء، لكن هل أصبح هذا واقعيًا؟ لم تجد منظمات حقوق الإنسان ولا شركات وسائل التواصل الاجتماعي هذه الطرق، بل عملت بشكل مقابل على إقصاء وعزل الخطاب المختلف، بنفس النهج السابق.
قد يعتبر فوكو هذا نسقًا وبنيةً مستمرَّة، وأن (الجنون) تغيَّر مفهومه وبات منسحبًا على من كان في القديم يعرَّف على أنه إنسان طبيعيٌّ، وبالتالي يخلص إلى النتيجة: لا يوجد مفهوم ثابت للجنون، ولا للشذوذ، وبدوره فإن دونالد ترامب، يوم تنصيبه رئيسًا في 21 يناير 2024، هاجم الشواذ ووعد بتصنيفهم وعزلهم عن الجيش، والمدرسة، والمستشفى، ونحو ذلك، ما يعني أن المفهوم لا يزال ثابتًا، ولم يتلاشى بشكل كامل.
مع أن السلطة التي تمتلكها المنظمات الحقوقية، والشركات الرقمية تبدو أقوى، لكن يوجد على الحقيقة صراع بين فئتين حول ضبط مفهوم سلوك معيَّن، فلم نلمس هنا انعدام ضبط المفهوم بشكل كامل، لذا فإن أطروحة فوكو تحاول إيجاد الاختلافات بين أنساق تاريخية معيَّنة حول ضبط مفهوم الجنون، لكن هي تعمل على تسليط بقعة ضوء على حالات القطيعة فقط، دون ذكر لأي مصحَّات أخرى، أو مؤسسات، أو بنيات، تخالف في تلك القطيعة.
لقد تجاوز الفلاسفة تصنيف الشذوذ كجنون، كذلك منظومة الصحة العالميَّة، والمؤسسات الطبية الرائدة عالميًا، وكل منظَّمات حقوق الإنسان، ومختلف الدساتير والسلطات الفعلية في الغرب، ماذا لو كان بدل ترامب، رئيس شاذ؟ سيعلن كتاب فوكو انتصارًا كاسحًا، باعتبار أن السلطة قد أنتجت خطابا جديدًا حول الجنون، شكَّل قطيعة كاملة ونهائيَّة مع الخطاب السابق، والمفهوم السابق، فمثل هذا الطرح، من وجهة نظر عامَّة يقوم بشكل دقيق على إبراز المحطات التاريخيَّة التي يمكن أن تخدم السرديَّة والحبكة فحسب، ويمكن لمن هو متخصص في تاريخ أوروبا، أن يقف على نماذج نصينفيَّة في أنساق حَكَمَ فوكو بزوال التصنيف فيها.
رحلة المفهوم من روما القديمة إلى أوروبا الحديثة
لقد كان الشذوذ مباحًا في مرحلة الإمبراطورية الرومانيَّة ما قبل العصور الوسطى، حتى إن يوليوس قيصر كان شاذًا، وفي اليونان أيضًا وقع نفس الأمر لقد كان كل من أرسطو، وسقراط، شواذًا، بحسب محاورات أفلاطون، وبعد ذلك بقرون، أي مع سلطة الكنيسة صار الشذوذجنونًا، ووقعت قطيعة مع مفهوم الشذوذ في عصور سابقة، لقد كان الشذوذ أمرًا متعلقًا بظواهر جنسانيَّة غير تلك التي أطلقت عليها الكنيسة اسم الشذوذ، ثم قاطعت هذا المفهوم، وثبتت على أن الشذوذ هو ذلك المفهوم الذي نعرفه اليوم، ثم عادت أوروبا في العصر الحديث إلى اعتبار الشذوذ سلوكًا طبيعيًّا وقاطعت مفهوم الكنيسة له.
عادت أوروبا إلى المفهوم الروماني القديم، فالموضوع تاريخي يقع في صميم الهويَّة الأوروبيَّة، ومرتبط بأوروبا المنحطة (العصور الوسطى) التي كافحت الشذوذ وعزلته، ضد أوروبا القويَّة (الإمبراطورية الرومانيَّة) التي كان أقوى أباطرتها شاذًا، تبدو هذه السردية أكثر واقعيَّة من تلك التي سعى فوكو لتعميمها حول حياة المفاهيم وموتها، لم تقع قطيعة، بل وقع انتقاء استرجاعي لذاكرة تاريخية مترسِّبة في الهويَّة الأوروبيَّة.
فإن المجتمع أو التيار قد يحيي قيمًا كان يراها بالأمس قيما سيئة وقبيحة بمجرد أن يكتشف أن لها وجودًا ولو كان بسيطًا في تاريخه القديم، حيث يشعر بالألفة تجاه ذلك الخلق أو تلك الفكرة، أو المشرب، فيتعاطف معها، بحكم ملامستها لجزء من هويَّته، تلك التي تشكَّلت خلال قرون.
وعندما تواجه المجتمعات تحديات جديدة أو تشعر بتهديد لهويتها (كالحرب العالميَّة الثانية) تلجأ إلى الماضي لاستعادة الشعور بالأمان والاستمرارية، وإذا وجدت الجماعة أن بعض القيم التي كانت تعتبر سيئة قد وجدت في تاريخها، فإن هذا يبعث على شعورها بالألفة والارتباط بالأسلاف، مما يخفف من حدة القطيعة مع تلك القيم.
وهذا ما كان يشرحه كارل يونغ في فكرة (اللاوعي الجمعي)، ونيتشه في فكرة (إعادة تقييم القيم)، فالواقع قد يكون على وجه الدقَّة عبارة عن استرجاع ثقافي لقيم كانت منبوذة في نسق ما، لكن كانت مُتَقبَّلة في نسق أقدم، فتحاول المجتمعات إعادة إحياء ما كان راسخًا في نموذجها الأقدم بغية التأكيد على التفرُّد الهوياتي، فالتحليل الذي يطرحه ميشيل فوكو مع أنه متَّسق في التاريخ الأوروبي، إلا أنه يعاني كثيرًا من الفجوات، خصوصا حول دعوى القطيعة التامة بين المفاهيم والمعاني على مر العصور ومع اختلاف الأنساق.
الشذوذ كما في مثالنا هنا، بحكم أنه كان يُصنَّف كجنون في القرون الوسطى، كان مُتقبَّلًا في أوروبا القديمة (روما) ثم عُزِلَ وقُمِعَ مع سلطة الكنيسة، لكن لو حذفنا هذه المرحلة (العصور الوسطى) وربطنا المرحلة الأولى (الامبراطورية الرومانيَّة) مباشرة إلى عصر ما بعد الحداثة، ولو لم يكن هنالك أغوسطين، ومثياق روما، وحريَّة اعتقاد المسيحيَّة، ولو واصلت روما حرب التطهير ضد المسيحيَّة، ولو لم تصعد القبائل الجرمانيَّة إلى الحكم، ولو لم يتأسس الإقطاع بكل لوازمه مع الإمبراطورية الكارولونجيَّة، وبقي الخط ممتدًا من الامبراطورية الرومانيَّة وصولًا إلى أوروبا الحديثة وحسب، لم يكن ليشهد الشذوذ أي مصداق لأبحاث فوكو حول مسألة الأنساق وخطاب السلطة وتحول المفاهيم وقطيعة معنى مع معنى أسبق.
وغاية ما في الأمر أن هنالك فكرة ضد أخرى، وأيهما وصل للسلطة فرضها، ويبقى النزاع على مستوى آخر: أيهما تمثل حقيقةً؟ لكن على مستوى التاريخ، فإن صاحب السلطة هو من يفرض فكرته كحقيقة، فيلعب فوكو على خطاب المنتصر، وآثاره على الشِّعر والألفاظ والكلمات والتصرفات والوعي الجمعي، ويعتبرها مثالًا لما رآه أبناء ذلك النسق حقيقةً، هكذا يؤرخ للجنون، مع أن من لم يتبنُّوا ذلك متوافرون ولو لم تُنقَل شهاداتهم على الحقيقة أو المفهوم أو المعنى!
عودة إلى السؤال الأساسي
نرجع إلى عنوان هذا الفرع، من أعطى المصحَّات هذه السلطة؟ يشرح ميشيل فوكو، أن هذه السلطة لم تُمنَح للمصحاب بشكل مباشر من جهات معيَّنة، بل نشأت نتيجةً لتطوُّر شبكة معقَّدة من الخطابات والمعارف والمؤسسات في سياق التحولات التاريخيَّة، فمثلًا كانت سلطة الأديرة وبنيات التطبيب في القرون الوسطى مستمدَّة من سلطة الكنيسة، أمَّا في عصر النهضة، فقد استمدَّ الطب النفسي سلطة غير مسبوقة مع صعود التفكير العلمي والعقلاني، وبهذا أضحى العلم مرجعيةً وحيدة لتحديد كل ما هو طبيعي وما هو جنون أو شذوذ، أو مرض.
يشرح ميشيل فوكو في كتابه، أن السلطة والمعرفة كيانان مترابطان بشكل وثيق، فالمصحَّة اكتسبت سلطتها لأنَّها كانت مركزًا لإنتاج المعرفة حول الجنون والمرض العقلي، وهذه المعرفة بدورها، هي ما أعطى للأطباء النفسيين سلطات عالية على المرضى، وبالتالي كانت المؤسسات ذات السلطات العالية مثل الدولة، والنظام الصحي، والقانوني، تعتمد على تلك المعرفة الطبيَّة لعزل المجانين، أو غير العقلانيين وحمايتة المجتمع منهم.
وبدوره المجتمع طبَّع مع هذه السلطة ودعمها لأنه رأى فيها وسيلةً لتنظيم نفسه وحمايته من الانحراف، وبالتالي أضحت المصحات ممارِسةً لسلطتها بشرعيَّة مستمدَّة من المجتمع على المجتمع، فهي بنظره أداة لإعادة إنتاج التنظيم الاجتماعي، تضع حدودًا واضحة وفاصلة بين ما هو عقلاني وما ليس كذلك، وبما أن الأطباء النفسيين يمثلون خبراء محتكرين لسلطة تحديد معايير الصحة النفسية والعقلية المثلى فقد عزَّزوا هذه المكانة من خلال خطاب علمي دوما ما ادعى الموضوعيَّة والعقلانيَّة.
الغرض من كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لميشيل فوكو
وصلنا إلى خاتمة الدراسة، إنَّ الغرض من كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لمؤلفه ميشيل فوكو، والذي كان أطروحة دكتوراه سنة 1961، يشرف عليها جورج كانغيلم المساهم في تاريخ العلوم ونشأتها، هو الوصول لنتائج عدَّة بصفته ما بعد حداثي، منها مسألة إلغاء الإقصاء، وهو المصطلح الذي ذكرته في أول الدراسة، فبدون السلطات العليا للمصحَّات سيضطر المجتمع للتصرف بشكل متقبِّل لشتى أنواع الاختلاف دون أن يلجأ للإقصاء أو العزل.
فمثل ظاهرة الكلاب البشريَّة، ليس هنالك قاعدة طبيَّة أو علميَّة أو حقوقيَّة، تفرض أنهم مرضى أو مجانين، وبالتالي ستفرض سلطة الدولة على المجتمع مراعاة حقِّهم في عيش هذا الدور، وسيُتقبَّلون مجتمعيًا، ويُبتَسم معهم في الطرقات، وقِس على ذلك شتى أنواع الجنون الأخرى، كالشذوذ، والتحوُّل، وربما البيدوفيليا أيضًا.
أوروبا، من العقل إلى الجنون، الأطروحة التي قتلت ميشيل فوكو
مات ميشيل فوكو مريضًا بالإيدز (السيدا) ولم يكن هذا المرض كالجنون من حيث قابلية الحذلقة عليه بأنه لا يقبل التصنيف، إنَّه قد يقتلك عدم العزل والتصنيف والقمع ضد البيدوفيليا، إن الطريقة التي انتهت بها حياتك كشاذ، لا يمكن تبريرها بتأليف أطروحة دكتوراه في تقبُّل بيدوفيليَّتك أو شذوذك، لا يمكن رفع التصنيف عن السيدا بأنه قاتل، لكن فوكو رفع عن مقدمات السيدا تصنيف الشذوذ والجنون، مع ذلك مات صريعًا لهذا، لقد قتلته أطروحته.

إن الحديث عن أوروبا طويل، ولن تتسع له مراجعة سريعة كهذه، لكن يمكن أن نختم الموضوع بقليل من السخرية، يوم بدأت أوروبا نواة حداثتها بعناوين من قبيل (قواعد لتوجيه العقل) لديكارت، (نقد العقل الخالص) لكانط، (عصر العقل) لتوماس بين، (الطبيعة البشرية) لهيوم، (تقدم العقل البشري) لكوندورسيه، (الفهم البشري) لجون لوك… وانتهت ما بعد حداثتها إلى الجنون والجنسانية، فليس بمستغرب كثيرًا أن يموت ميشيل فوكو مريضًا نفسيًا مقتولًا بالسيدا بعد هوس دام سنوات بالبيدوفيليا في مقابر تونس أيام الاستعمار الفرنسي، وهذه إلى كونها إحدى ضرائب تأسيس فكر فهي أيضًا إحدى ظواهر الانحدار من فوق إلى تحت، من عقل إلى جنون.
أسئة شائعة
لديك أسئلة إضافية حول كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي؟ أو ترغب في قراءة المزيد عن موضوعات مشابهة؟ أخبرنا بذلك في التعليقات وسأكون سعيدًا برأيك.
اترك تعليقاً