في محددات النصر (حول انتهاء حرب غزة)

د

رسمة بعنوان في القمة، لجون ناش، ١٩١٧، خلال الحرب العالمية الأولى.

استشهد في النَّكبة ما يقارب ١٧٠٠٠ فلسطيني، وفي النَّكسة ما يقارب ٦٠٠٠ فلسطيني، وسميت الانتفاضة بنكبة ثانية، واستشهد خلالها ما يقارب ٤٤٠٠ فلسطيني، وسمت الأولى (نكبة)، والثَّانية (نكسة)، وحيث استشهد في حرب غزة أكثر من ٤١٠٠٠ فلسطيني سمِّيت نصرًا مؤزَّرا، وحينما دُمِّر الطيران المصري في 67، نشرت إذاعة صوت العرب: دحرنا قوات العدو!

إن محددات التصريحات السِّياسيَّة مثل النصر في العالم العربي الحديث دومًا ما تبدو مائعة، وهي متناولة دائمًا في ظل رفع الجانب المعنوي، مسألة أخلاقية، جماليَّة، معنويَّة، مثاليَّة أكثر منها مسألة موضوعيَّة، مرتبطة بالفرح، والحب والغضب، وقد ترتبط بمشاعر أعقد، مثل الحقد، والانتقام، وقد تعاني اضطراب ثنائي القطب أحيانًا، تجمع بين الفرح المفرط، والحزن المفرط في نفس الوقت على نفس المسألة، تناقش جوانب شعور، كيمياء تحصل ذاتيًا داخل كل فرد، لكنها لا تتحمَّل صقيع الواقع، ترتجف أمامه، وتهمِّشه رغم ذلك، تسمِّيه جانبًا ماديًا.

image 2024 11 15 233530357

مع أن الشعور، يفترض أنه انعكاسٌ لمفرزات ماديَّة لا غير، ويبقى الواقع المادي مع كل هذا التهميش، هو المتحكِّم في كل تلك المفرزات الشاعريَّة، لن يفرح دون تصارع موادٍّ على الأرض، ولن يحزن، دون زوال موادٍّ على الأرض، وقد يتشفَّى ويعيش لذَّة الانتقام دون انغلاق خطوط إمداد ماديَّة ويحزن لوقوع آثارها، ثم يسِم انغلاقها بالهزيمة، ويسِم آثارها تارة بالنَّصر، لكنه يسمي الواقع “رياضيات ليست من دين محمَّد” مع أن الدين الحق، حطَّ على الباطل لأنه جعل الواحد مساويًا لثلاثة.

وقد جاء في القرآن “إذ أعجبتكم كثرتكم” ثم قال في الآية “ثمَّ ولَّيتم مدبرين” عن عدوِّكم منهزمين، وذلك الهزيمة، وروى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلَّم “خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تُغلَب اثنا عشر ألفًا من قلَّة” وحين قال تعالى “ثم ولَّيتم مدبرين” قال “ضاقت عليكم الأرض بما رحبت” أي: أصابكم من الهمِّ والحزن والغم حينما انهزمتم.

فهي مشاعر أصابت المسلمين، بعد وقع مادي، وهو انهزامهم بداية المعركة، رغم تعدادهم الذي كان متفوقًا، فكانت المشاعر تابعةً لوقائع ماديَّة، وقد تكلَّم الله عنها مرتبةً “إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين”، فلغة الأرقام كانت حاضرةً بينهم، وخطاب القرآن كان علميًا موضوعيًا: الشعور كان انعكاسًا لما حصل على الأرض، وقد قال استثناء “لقد نصركم الله في مواطن كثيرة” دلالة على أنه لم يتعيَّن نصر عندها، إلى أن “أنزل جنودًا لم تروها” وهي الملائكة، فتحقق نصرهم على العدو واقعًا فقال “وأنزل جنودًا لم تروها، وعذَّب الذين كفروا” فكان جانب المشاعر متسقًا مع هذا، إذ هزم العدو قتلًا وسبيًا، فقال “أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين” وهو ما لم يكن قبلها.

أما اليوم، فإن تحدَّثت بنفس المنطق، وأوردت تعدادًا، جيئ لك بأرقام من الحرب العالمية الثانية، ويقول لك: أيها المادي، أنظر، مات للسوفييت ثلاثون مليونًا لكن انتصروا في حين مات للألمان سبع ملايين. نعم، هم سوفييت، ماديُّون بتعبير الجماعة، لا يلقون اعتبارًا لحصاد الأرواح، ومع ذلك يستأنس الأخ منهم بحجةٍ على من قال: هنالك رقم مهول هناك. فلا ضير أن يستعير من الماديين ماديَّة بعض الأحايين.

مع أن السوفييت وضعهم كان أعقد، كان بينهم وبين الألمان معاهدة، ثم غدر الألمان في قلب روسيا وفتحوا جبهةً على موسكو، ستالين نفسه خاف أن يغتاله ضباطه جرَّاء فشله في التوقُّع، وانتهى هذا الخطأ بمقتل عشرات الملايين من السوفييت، ثم ماذا؟ جاءت معركة موسكو، ومن ثم معركة ستالينغراد، ومن ثم معركة برلين استعمر السوفييت ألمانيا في نفس الحرب، لكن وفق معارك متقاطعة، وكان يمكن أن تنتهي الحرب عند معركة ستالينغراد فحسب، حيث تحرَّرت روسيا من الألمان.

لكن الدَّعم الأمريكي والبريطاني شكَّلا تطَّلعا لأحداث أكبر، تمثلت في السحق النهائي لدول المحور، بل قسَّمت ألمانيا وفق ما عرف بألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وأعلنت في السابع من أكتوبر 1949جمهورية ألمانيا الديمقراطية، بإدارة من الاتحاد السوفييتي، كان نصرًا سوفييتيًا، رغم اختلاف حصاد الأرواح والأجساد، لقد أزيلت ألمانيا بكل أيديولوجيَّتها، وأزيلت إيطاليا، وألقيت قنابل نووية على اليابان، وانتهت الحرب العالميَّة لصالح الحلفاء ماديًا ومعنويًا بشكل قاطع، وخرجت ألمانيا من فرنسا ومن بولندا، حرفيًا لم يعد هنالك استعمار ألماني في أي مكان في العالم، وخرج شارل ديغول، يشكر السوفييت على تحرير بلاده فرنسا من الألمان.

لكنَّ نفس الشخص، يستحضر تعداد قتلى السوفييت مقابل الألمان، على أنه غير مشكِّل لتصوُّره لمحددات النصر المبنية على عدد القتلى، لكنَّ فلسطين لا تزال تحت استعمار رغم وقف إطلاق النار، وهي في وضع أسوأ من وضعها قبل السابع من أكتوبر، بل لا مقارنة حتى، ولا يحبِّذ الاكتفاء بالفرح، وتقريع وعيه السياسي الأسبق، لا يثور على المقدمات التي أدَّت لمثل هذا الوضع، حتى إنه لا يسميه نصرًا وحسب، بل يشنُّ حروبًا كلاميَّة ضدَّ من يستحضر مأساويَّة السنوات التي مرَّت واصفًا ما وقع بأنه هزيمة مكتملة الأركان.

وقد مرَّت السنوات وهو يغازل أطروحات ابن تيمية في نقد المنطق، وعندما قيل: هذا أشنع مما حصل في النكبة، قال: ما تعريفك للنصر؟ فعاد إلى الأرسطية، أن التصور لا ينال إلا بالحد، فلا بد أن نتفق على حدٍّ جامع مانع على الطريقة الكلاسيكيَّة لمصطلحي النصر والهزيمة، لتطلَّ متون المنطق بأذنيها حتى هنا.

وقد يقول: حدُّ النكبة خسارة أرض، وحدُّ النكسة خسارة أرضين، وهنا لم نخسر سوى أرواح، فترخص فجأة بين ناظريه روح المسلم في وَسمِ عِظَم البلاء بلفظ النكبة، فلا يصح هذا الوسم لديه، وإنما نسمِّى نكبة متى خسرنا أرضًا فسحب، أما الأرواح فهي فدى الأرض كيفما اتفق، ثمَّ يفسِّق الوطنيَّة، وقد يرى كفرَ من قال: الروح في سبيل الأرض والوطن، لتضيع كل ثمرة سياسيَّة فداك يا عِلم الجدل.

مع أن القرآن واضحٌ، فعند وقوع هزيمة في صفنا، فقال “حتى إذا فشلتم” فوصفه فشلًا، وقد كانت الهزيمة في أُحُد متمثلةً في استشهاد سبعين صحابي، وموت اثنين وعشرين رجلًا من المشركين فقط، بعد أن التفَّت قواتهم على المسلمين، وأضحى المسلمون في موقف دفاعي، فضعفت فرصهم في إلحاق هزائم بالعدو، واستشهد مصعب بن عمير، وحمزة. فكانت الهزيمة هي هذه، عدد الشهداء الذي فاق عدد قتلى المشركين، كشف ظهر المسلمين، تحول المسلمين لوضع دفاعي بعد التفاف المشركين عليهم، وكل ذلك عند مخالفة أمر هو شرعي لكن في الوقت نفسه سياسي استراتيجي؛ نزول الرماة عن الجبل.

ومع ذلك، انسحب المسلمون إلى عمق استراتيجي، واعتصموا بجبل أحد، لكن بالمقابل انسحب المشركون من أرض المعركة، وعادوا إلى مكَّة، ولم يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، بل أشاعوا ذلك فحسب، وقيل: مثَّلوا بجسد حمزة رضي الله عنه، وكثير من قيادات المسلمين بقيت على قيد الحياة، ولم تتقلَّص مساحة حكم المسلمين، ولم يتمكَّن المشركون من استغلال الخسارة الميدانيَّة للمسلمين لتقويض نفوذهم في المدينة أو المناطق المحيطة بها، ولا حاولوا اقتحامها، ولم يبيدوا قيادة المسلمين، ولا وصلوا لهم في جبل أُحُد.

فماذا قال الله عن هذا كلِّه؟ “حتى إذا فشلتم” لقد تعامل القرآن مع المسائل السياسيَّة بمرونة بالغة، وصرف أنظار المسلمين عند اشتداد الوقع إلى ضرورة النَّقد الداخلي، وتسمية الأشياء بمسمَّياتها، ولم يتعرَّض فحسب لتقريع الأعداء، لقد وصف الفشل في صف المسلمين فشلًا، وعند تعيُّنه جرَّاء عصيان الأوامر تعرَّض للشَّرف العسكري بصرامة، فقال “منكم من يريد الدنيا” والنَّاس لا تزال بجراحها، وأوضح مرارًا أن النصر قد يقع، وقد لا يقع، وعند تخلُّفه ماديًا لن يسميه نصرًا، ولو كانت المعنويات والقضية في صالحك، فأي معنويات وأي قضية أشرف من تلك التي كانت تُدار والنبيُّ على رأس القوم، ومع ذلك عندما خولف وتعيَّنت الهزيمة، مع رِفعة المعنويَّات الدينية، وإنقاذ بقيَّة المسلمين بالاعتصام على رأس الجبل.

بل كانت هزيمةً في المعركة، رغم خذلان من كانوا في الأصل ضمن الجبهة، وهم طائفة قالوا “لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا” وقالوا “لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا” ومع وجود خذلان واسع من فئة المنافقين، في الرأي، وفي الاعداد، وفي المشاركة، كان وصف الهزيمة ثابتًا، وبعض النَّاس اليوم، يجعل خذلان دولة هنا، ورأي أخرى هناك، عاملًا في تحديد الصفة: هزيمة أم نصر، فلم يقل صحابي للنبي: لم نخسر فالموازين منقلبة، المشركون متَّحدون، ونحن بيننا منافقون مخذِّلون.

قال “فشلتم” ولم يُقَل له بعدها المهم قضيَّتنا عادت للحياة! ولم يُقَل له المهم صمدنا في الجبل؛ عمقنا الاستراتيجي ولم يصلونا بعده، بل صمدوا، ورجعوا إلى ديارهم، ولم تُمسَّ المدينة بسوء قط، وكان تقييم الوضع: هزيمةً، ثم قال بعد آيات “لكيلا تحزنوا على ما فاتكم” فكان شعور الحزن مترتبًا على تعذُّر النصر والظفر ووقوع الهزيمة وتعداد القتلى والمجروحين.

فكيف وغزَّة قد دمِّرت بهذا الشكل، ولا تزال بعدُ تحت الحصار، وفلسطين مستعمرة كما كان قبل السابع من أكتوبر، وتعداد الشهداء مهول، والقيادات التي استشهدت، والأطفال، وكل المحور بل وكل العمق الاستراتيجي، وكل خطوط الإمداد، قد مسحت من الوجو، بل قد يُجعَل من سحق خطَّ الامداد لغزَّة، ثمرةً للنصر الذي حققته غزَّة مع انهيار محور المقاومة مع أن قائد طوفان الأقصى كان يقول بالحرف “سوريا الأسد، سوريا المقاومة”

فهل يضع الرجل عقله في حذائه ويدعس عليه لا لشيء، إلا لأن بعض الهواة غير معجبين بمقولة: لقد سُحِقنا في غزة عن بكرة أبينا! بل ويفرح لتوقف ما يسميه مجازر وحشيَّة ضدَّ الغزيين، ثم يجعل توقفها وهو ينقل على الجزيرة أن ذلك كان بأمر أمريكي لحكومة العدو: نصرًا سياسيًا عسكريًا استراتيجيًا دوليًا أمنيًا استخباراتيًا وطنيًا وتحرريًا كان هو جزء منه.

ثم يحدثك عن العلمانية، مع أنه هو من يفصل السياسة الاحصائية، الأرقام، والانتصار العسكري، انكسار كل خطوط الامداد، وما يجري تدريسه في الكليات الحربية والعسكرية، عن الشريعة، يهمش كل الواقع والعالم المادي الموضوعي عن الشريعة، وقد يقول لك: “هذا في علم الرياضيات، أما في دين محمد فلا” في صورة أبلغ ما يقال عنها أنها أحدث نسخة علمانية لتصور الإسلاميين عن علاقة الدين بالرياضيات لا بالسياسة فحسب.

ولم يكن القرآن على هذا النهج يومًا وهو ينزل بعد كل حدث، بل كان يحصي، ويذكر الأرقام، ويذكر الفشل، ويذكر النصر، ويوجه الشعور بعد وقوع الواقعة بما يراعي الحقائق وحدها، ويعلِّم المستمع ضرورة النقد حتى لو كان الشخص في جراحه، حتى لو كان في عز انهياره المعنوي، فعن أي علمانية يكلِّمك هؤلاء تكفيرًا وتفسيقًا وهم من طوَّروا أعمق نُسَخِها؟ وكأن الانفكاك عنها يتعين فقط عند ترديد الشعارات، أو العبارات الدينية، بعيدًا عن حقيقة مقال الشخص وتصوراته. مبارك لإخواننا في غزة، وفي فلسطين، ولنا جميعا، توقف المجازر.

مقال التاريخ له دورة، حول موضوع “النصر” في حرب 67

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

3 ردود على “في محددات النصر (حول انتهاء حرب غزة)”

  1. الصورة الرمزية لـ IsmaeiN

    نسأله سبحانه أن يبارك لك ف طرحك.. أنت بتكتب بطريقة جميلة أوي يا باسم بتجبرني أقرأ وأحلل الكلام..

  2. الصورة الرمزية لـ بلال

    تضارب طرفانٌ، قويٌ بسلاحه، كثيرٌ بأوليائه وحلفائه، مع متواضعٌ بسلاحه، قويٌ بعقيدته وإيمانه..
    ولم يحسم أحدٌ منهما المعركة، وخرج الطرفان بمكاسبٍ وخسائرٍ على تفاوتٍ في أحجامها وصورها، مادية ومعنوية..
    وبما أنّ المعركة لم تحسم، وبما أنّ الصدام قادمٌ، قادمٌ مرةُ أخرى، بل مرةً بعد مرةٍ حتى يقضي طرفٌ على الآخر ( ووعد الحقّ لنا ) فيبقى الخلاف الدائر الآن بين أطرافٍ من الأمّة حول ما إنْ انتصرت غزة أم انتصر يهود، يبقى خلافًا من الصواب أن نستبدله بأين كان الخطأ حتى نتجنّبه ونعالجه، وأين كان الصواب حتى نعزّزه وننمّيه فيما وقع على أرض غزة، وما هي الدروس المستفادة، فهذا هو المفيد النافع.
    وهنا يجب التجرّد والأمانة والعدل في الرأي وفي النصيحة والبيان، ولا يجوز، ويحرم كتمان الحقّ، وشهادة الزور لهوى أو انحياز، فهذا من الغش الحرام.
    والحديث هنا عمّن بَدَلَ الرأيَ أمينًا صادقًا، طالبًا للحقّ بإنصافٍ وعدلٍ، وليس مَن نطق بهوىً وفي قلبه مرض، ولا مَن كان مطيةً ونعلًا لحاكم أو سلطان، ولا عبد درهم ودينار باع دينه بأبخس الأثمان.منسوخة من مجدي المغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *