من المسائل التي تفرضها السِّياسة، مهما بلغ حلم الناس، أن الثورة، تعقبها حرب أهليَّة، المسألة لا تخضع لأمزجة ورغبات، فالسِّياسة علميَّة، وقوانينها نافذة! بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، تأسست الدولة، على خليفة سقوط دول في المنطقة، الحكم في قريش والمدينة وفي سائر البلاد العربية، توفي النبي، ارتدَّت كثير من القبائل، فماذا كان؟
وقعت حرب أهليَّة، وسمت بحروب الرِّدة. وامتدَّ الأمر بشكل مسالم بعد إخمادها، لكن لكون بذورها لا تزال معبَّأة في بعض القبائل، وقعت حرب أهليَّة ثانية، بعد مقتل الخليفة عثمان، الجمل، ثم صفِّين، وما لم تكن التَّربية السياسية بالغةً مراحلها القصوى، لم يكن الجانب الأخلاقي والدِّيني كافيًا في كبح جماح الحربين الدَّاخليَّتين.
وبعد أن وحَّد الأمير معاوية الدولة، لم تمض سنوات كثيرة، حتى عادت بذور الحرب لتطل، كان خروج الحسين لإسقاط يزيد بن معاوية، استمرارًا لمظاهر الخلاف على المستوى السياسي، ليس شرطًا أن يكون خلافًا أخلاقيًا، أو دينيًا، طويت تلك المرحلة بطريقة ما، فاندلع الوضع في الحجاز، وأدَّى ذلك إلى وقعة الحرَّة، ولعب فاعلون كثر على حساب مرحلة الحسين، التي قيل أنَّها مضت، برز سياسيُّون ذوي أيديولوجيا تعود إلى ما قبل، فخرج المختار الثقفي، ووقعت معركة الكوفة، المذار، والخازر، ونحوهم، ثم أخمدت ثورته.
بعد أن أعاد مروان بن الحكم بعث الدولة، خلفه عبد الملك، الرغبات السِّياسيَّة بدأت تظهر داخل أبناء نفس النظام، فخلع عمرو بن سعيد بن العاص عبدَ الملك، فجرت تصفيته، وخطب عبد الملك على إثرها في الناس “إنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يك عقد راية أو وثوب على منبر” فالنِّزاع سياسي، يهدف إلى عقد راية، أو وثوب على منبر.
مرَّت السنوات، وأسقط العباسيون الدولة الأموية، كان أبو مسلم الخرساني، أحد أبرز الفاعلين لمصالح رؤسائه العباسيين، بعد انقضاء الثورة ما الذي وقع؟ حاول رفع راية، فكانت التصفيات على مستوى الجهات العليا في الدَّولة قد بلغ حدَّه الأقصى، قام أبو جعفر بتصفية الرجل الأول في الثورة، أبو مسلم الخرساني، رغم أنهما قد مثَّلا لحمة في المرحلة الثورية.
عندما قامت الثورة البلشفية، جرى اقتلاع السلالة الحاكمة، آل رومانوف من جذورها، ولم تمض أيام على نشوء الدولة الجديدة، كان للبلاشفة تطلُّعات أمميَّة، تصدير الثورة، وأفكار مثل الشُّيوعيَّة العالميَّة، فماذا كانت؟
نشبت حرب روسيَّة أهلية، ودعمت القوى الرأسماليَّة جيشًا روسيًا مناهضًا للجيش الأحمر، إنه الجيش الأبيض، وراح جرَّاء الحرب حوالي 12 مليون روسي. ولم يمض الكثير، حتى جرت الاشتباكات والتَّصفيات بين عناصر أبناء نفس الحزب، بل حتى بين أبناء نفس التربية السِّياسيَّة الرفيعة، ستالين، وتروتسكي.
بعد الثورة الإيرانيَّة ترى ماذا حصل؟ انزلقت الثورة إلى صراعات وتصفيات داخليَّة بين القوى المشاركة في إسقاط النِّظام السابق، سعى الخميني لإقامة نظام إسلامي، وسعى اليسار لإقامة نظام ديمقراطي اشتراكي، وبعد أن أبدت منظمة مجاهدي خلق امتعاضًا من نظام الخميني، وقعت مواجهات مسلَّحة بين الطرفين، وأعدم الخميني الآلاف خلال الثمانينات، حتى سنة 88 أصدر الخميني فتواه بإعدام آلاف السجناء السِّياسيين، من فصائل كانت مشاركة في الثورة، ولم يسلم حتى أبناء نفس التربية السياسية، فجرى استهداف شخصيات مثل آية الله منتظري، الذي كان مرشحًا لخلافة الخميني.

ألم يكن جمال عبد النَّاصر محسوبًا على الإخوان المسلمين في بدايات ترتيبه للثَّورة؟ نعم، لكن لم تمض سنوات كثيرة، حتى أصدر قرار إعدام كبارهم بنفسه، نفسهم الإخوان، لم يمض الجيل الأول منهم حتى أقدم التنظيم الخاص على تصفية أحد أعضاء مكتب الإرشاد، الذي هو سيد فايز، بواسطة علبة حلوى مفخَّخة.
نفس الأمر بعد إنهاء الإسلاميين لتواجد السوفييت في أفغانستان، بدأت الانقسامات تظهر بين مختلف الأطراف التي كانت موحَّدة، بدأت النزاعات، حتى جرت تصفية جميل الرحمن، في كونر، بعد أن حظر الحزب الإسلامي الذي كان يرأسه حكمتيار.
العالم السياسي نافذ القواعد، ولا يمكن التعامل معه بلغة أخلاقيَّة، بقدر ما يتعيَّن تناول كل شذرة فيه بتشريح سياسي، هذا هو ما يكفل سلامة التحليل ووضع التحدِّيات في مشهدها الصحيح، هذا هو ما يعنيه تحديد المسائل السياسيَّة، من الحياة السياسيَّة نفسها. لذا فالتحدِّيات التي تعقب كل ثورة، هي أكبر من الثورة نفسها، تكون عنيفة، وقاسية، ومستواها قد يصل إلى التفكيك، وقد يصل إلى مراحل متقدمة من التعقيد، وهي غامضة، لا تتميَّز برتابة النظم السابقة، ولا بنفس مبادئها.
اترك تعليقاً