دمويَّة الحجاج بن يوسف الثقفي وعلم الآثار أمام أحداث شبيهة في العصر الرقمي

د

صورة رمزية لـ الحجاج بن يوسف الثقفي

إنَّ ما نشهده من حين لحين من صناعة الأكاذيب وتوظيف الصورة الرقمية في بناء سرديَّات زائفة يعكس صنيعة التزييف التاريخي الذي طالما شكَّل معمار الذاكرة الجمعية، فالاستثمار في العواطف، وإضفاء طابع الوثوقيَّة على المزاعم عبر “شهادات عيان” موهومة، كلها أدوات لطالما ساهمت في صنع تاريخ بديل يستمد شرعيَّته من وهج الحدث لا من دقَّة الوقائع.

وكما انطلت حكايات المقابر الجماعية والمتاهات الدموية في عهد الحجاج، حيث لم يكن النقد التاريخي قادرًا على التصدِّي لها، فإنَّ عصر الصورة ورغم تقدُّم أدوات التحقق لم يخرج عن النسق ذاته، بل زاده التراكم الرقمي تواطؤًا مع المرويات الزائفة فتحوَّلت الأخبار إلى منتجات استهلاكية تعيش دورة حياة قصيرة لكن ذات أثر تراكمي طويل، وقد يعيش لقرون!

مع تزايد الأكاذيب حول هويات وصور بعض الضحايا الوهميين في بعض الأحداث، لدرجة أن العشرات تطير الحسابات بصورهم، ثم يخرج الضحايا المزعومون في منشورات ساخرة يكتبون: رحمة الله علينا، فهم أحياء يرزقون! بل وصل الادعاء إلى جعل شخصيات شهيرة ضمن هؤلاء، ما يصور لك بدقة كيف سيجري التعاطي مع الموضوع بعد عشر قرون عندما تتحول هذه المنشورات إلى روايات لأشخاص شوام، بصفتهم “شهود عيان” على دمويَّة ما يحصل!

ذكرتني السخرية الحاصلة بقصة رويت في الكوفة عن الحجاج بن يوسف، عندما قيل أنه دخل مسجد زياد بن أبيه في البصرة، فقتل ما يزيد عن سبعين ألفًا! وانطلت الرواية قرونًا، وقد جاءت كالتالي: دخل الحجاج المسجد وكان معه ألفا جندي من أهل الشام، ووزَّعهم مئتين مئتين على كل باب على أن يقتلوا كل من خرج من المسجد، فقالت الروايات أنَّه قتل في يوم سبعين ألفا حتى سالت الدماء إلى الطرقات.

ومع هذا، جاء عدد من المؤرخين المحدثين وقدموا عملًا أحفوريًا، وتبيَّنت البعثة الأثريَّة العراقية المرسلة إلى البصرة سنة 1965 أن مساحة مسجد زياد بن أبيه حينها كانت 10736م مربع، فمثل هذه المساحة لا تتسع لأكثر من عشرين ألفًا باعتبار أن المتر المربع الواحد لا يتسع لأكثر من اثنين من المصلِّين 1

ومع أنَّ مسألة كهذه كانت تظهر ساخرةً حينها، إلا أنَّ وجود رواية لبصريين وكوفيين، وشيعة، بصفتهم “شهود عيان” لم يمنع انطلاء الكذبة بعد قرون على دموية الحجاج، فهذا في حادثة واحدة لم يختلف الأمر عمَّا هو حاصل اليوم في عصر الصورة وسرعة انتشارها وسهولة التحقق من مصداقيتها، فكيف بعصور لم يكن فيها غير التدوين ناقلًا!

  1. العراق في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، عبد الواحد طه، الدار العربية للموسوعات، الطبعة الأولى، 2005، ص72/ 73 ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *