عروبة الحميريين ولغتهم

د

الصورة لأحد الملوك الحميرييين قبل الإسلام، عثر عليه في شبه الحزيرة، كنقشٍ بارز على الحجر في ظفار، اليمن.

واحدة من بين العبارات التي وردت في تعليقات عدَّة، ما روي عن أبي عمرو العلاء (154هـ) أنَّه قال “ما لسان حِميَر بِلسَانِنا، ولا لغتُهم بلُغتِنا” ومسألة الاستدلال بقول أبي عمرو قديمة، ليست وليدة اليوم، لكن المشكلة أن البحث العلمي في الجذور، يكلِّفنا الكثير، فقد يُثار جدلٌ حول قول أبي عمرو، ثم نكتشِف أن القول لا وجود له أصلًا، فما العمل حينئذٍ مع اعتبار قوله قطعيًا في نفي عروبة حِميَر؟

أول من قال أنه “قد روي عن أبي عمرو العلاء أنَّه كان يقول ما لسان حِميَر بلسانِنا، ولا لغتهم بلغتنا” 1 هو طه حسين، في كتابَيه: في الشعر الجاهلي (1926م)/ في الأدب الجاهلي (1927م).

وقد كان طه تحريفيًا يراهن على كسل قرَّاءه من بعده، والأنكى، أنَّه أحال الاقتباس عن أبي عمرو، لكتاب طبقات فحول الشعراء لمؤلِّفه ابن سلَّام (232هـ) والكتاب مطبوع. وهو في الحقيقة يقول:

“وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حِميَر وأقاصِى اليَمن اليوم بلسَاننا ‌ولا ‌عربيَّتهم ‌بعربيَّتنا” 2

وليست العبارة المنسوبة لأبي عمرو، موجودة في غير طبقات فحول الشُّعراء، فهو مصدرها الوحيد، فالعبارة المنقولة عن أبي عمرو، مع أنَّها بلا سندٍ، إلا أنَّ فيها أمرين، أنه قال عن حِميَر “عربيَّتُهم” فهو يثبت لهم اللِّسان العربيَّ، بل أردفهم في الحكم بسكَّان أقاصي اليَمَنِ في أيَّامه، وهم عربٌ، إلَّا أنَّ عربيَّتهم ليست كعربيَّة أبي عمرو، وهو يقصد عربيَّة قريش.

فهو يقرُّ باختلافٍ في اللسان العربيِّ بين الحِميَريِّين، وبين عربيَّته، وحِميرٌ في اليمن، إلَّا أنَّ طه حسين، كان تحريفيًا، يسوِّغ لنفسه الكذِب، لأجل الأيديولوجيا، وقد مرَّت تحريفيَّة طه حسين على كثرٍ، وتناقلتها كتبٌ، فبعض ما نُقِلَ جاء بصيغة الاقتباس من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، أنه كتب “وقال أبو عمرو بن العلاء: ‌ما ‌لسان ‌حمير ‌بلساننا ولا لغتهم بلغتنا” 3 فهذه بواسطة طه حسين.

طبقات فحول الشعراء، حيث ورد أن لسان الحميريين عربي ما يثبت عروبتهم
طبقات فحول الشعراء، حيث ورد أن لسان الحميريين عربي ما يثبت عروبتهم

لكن جواد علي نفسه، ينقل عن أبي عمرو في غير موضع بواسطة المرجع الأصلي (ابن سلَّام) قائلًا:

“وليس في قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ‌ولا ‌عربيتهم ‌بعربيتنا [يحيل هنا لابن سلَّام] ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد” 4

لاحظ قوله: لا يجادل في عربيَّة حِميَر أحدٌ! وهذا في نفس المجلَّد الذي نقل فيه جواد قولَ أبي عمرو بواسطة طه حسين.

ودون الأعمال الكلاسيكيَّة، كابن خلدون، وابن حزم، ونحوهم من المؤرخين، الذين حكموا بعروبة حِميَر، بلا خلاف، حتى قال ابن خلدون: حِميَر من الطبقة الثانية من العرب، فمسألة عروبتهم تكاد تكون محلَّ إجماع في الأكاديديمَّة الغربيَّة، وقد طالعت في كتاب هويلاند، في نسخته الأصلية، أنَّ ملوك حِميَر عربٌ قدماء، وأورد قرائن وشواهد، وبعض الكتب ناقشت الآثار، وقابلتها بالعربيَّة، وخلصت لنفس النتائج.

على أنَّ مؤرخي الرومان واليونان قبل وبعد الميلاد، مثل ما تجده في كتاب ستاربون (64 ق.م)، من اليونان المؤرخين في العهد الرُّوماني، أنَّ “أوَّل من سكن سوريا من بلاد العرب السعيدة [اليمن] هم الأنباط والسبئيُّون” 5 وحِميَر ورثة نسبهم المباشرين بل حِميَر بن سبأ، وغير سترابون، مثل ديدور الصِّقلِّي (القرن 1 ق.م)، وبطليموس (القرن 2 ق.م)، كتبوا أنَّ اليمن الأرض العربيَّة السَّعيدة، وهي تشمل أساسًا أراضي ممالك الحِميَريِّين.

مثلًا بلينيوس (79م) قسَّم الأراضي العربيَّة إلى البتراء، والصَّحراويَّة، والسعيدة، وهي اليمن، وامتدح خصوبتها، وقد جاء في كتابه، التَّاريخ الطبيعي:

” As for Arabia itself, it is a peninsula, running out between the Red and the Persian Seas; and it is by a kind of design, apparently on the part of nature, that it is surrounded by the sea in such a manner as to resemble very much the form and size6 of Italy” 6

التَّعريب: “أما شبه الجزيرة العربيَّة نفسها، فهي شبه جزيرة تمتدُّ بين البحر الأحمر والخليج الفارسي؛ ومن خلال تصميمٍ ما، يبدو وكأنه من صنع الطَّبيعة، فقد أحيطت بالبَحر بطريقة تجعلها تشبه إلى حدٍّ كبير شكل وحجم إيطاليا”

فإنَّ بلينيوس (79م) يقول أنَّ شبه الجزيرة العربيَّة، تقع بين البحرين، الأحمر والفارسي، لكنَّ هذه الصورة لا تكتمل، ولا تنطبق بدقَّة، إلا إذا أخذ بعين الاعتبار جنوب الجزيرة العربيَّة، أي اليمن، ولا تتحقَّق مقارنتها بإيطاليا دون اليمن تحديدًا، فهي تشكِّل رأس القدم في الاستعارة الجغرافيَّة، التي تجعل الجزيرة كأنَّها إيطاليا أخرى.

وهذا التشبيه لا ينطبق لا على نجد، ولا الحجاز، ولا الرُّبع الخالي، والرومان لم يصفوا غير اليمن بالخصوبة، فغيرها من أراضي العرب قاحلة، والأحرى أنَّ كلمة (السعيدة) وهي ترجمة لكلمة (FELIX) تعني كلمة (خصبة).

وفي كتاب التاريخ الروماني لكاسيوس (155م)، تحدَّث عن حملة الرومان إلى ما أسماه بالبلاد المسمَّاة “العربيَّة السَّعيدة” وهي حملة غالوس إلى اليمن، وقد جاء في كتابه:

“While this was going on, another and a new campaign had at once its beginning and its end. It was conducted by Aelius Gallus, the governor of Egypt, against the country called Arabia Felix”7

التعريب: “وبينما كان هذا مستمرًا، كانت هناك حملة أخرى جديدة لها بدايتها ونهايتها في آن واحد. وقد قادها إيليوس غالوس، حاكم مصر، ضد البلاد التي تدعى العربية السعيدة”. وهي حملته على اليمن.

  1. في الأدب الجاهلي، طه حسين، ص67 ↩︎
  2. طبقات فحول الشعراء، ابن سلَّام، تحقيق: محمود شاكر، دار المدني، ج1، ص11، الفقرة 13. ↩︎
  3. المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص196 ↩︎
  4. المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص274. ↩︎
  5. The geography of strabo, Book 16, Chapter 4, Section: 21 ↩︎
  6. https://www.perseus.tufts.edu/hopper/text?doc=Perseus%3Atext%3A1999.02.0137%3Abook%3D6%3Achapter%3D32 ↩︎
  7. https://lexundria.com/dio/53.29/cy ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *