مسألة (اختلاف وجهات النظر) بين مادية ابن تيمية وفلادمير لينين، ومثالية هيوم وإمانويل كانط

د

صورة تخيلية لابن تيمية

مقولة «لكل منا وجهة نظره/احترم وجهة نظري» واحدة من المقولات التي لا تسمعها عند صاحب الحق، بل صاحب الحق دائما ما يرى أن الحق واحد، وأن الحق حق سواء نظر الناظر إليه أم لم ينظر، وبالتالي فلا دخل لوجهة نظره في القضية.

وإنما تجدها على الدوام متداولة على لسان ذلك اللاأدري الشاك في الحقيقة، والذي يترجم شكه كوجهة نظر، قائلا “لا أدري أكلامك حق أم كلامي، فلتعتقد صحة كلامك، ولأعتقد صحة كلامي، ما دمت لا أدري أيهما الحق” ولكن ترى اللاأدري يبسط ذلك معممًا عليك اللاأدرية، فأنت أيضا في نظره لا تعلم الحقيقة المطلقة! لا تعلم حقيقة الشيء في ذاته، ولكنك تعلم الشيء لذاتك فقط!

كانت الفلسفة المثالية على الدوام مثارا لمثل هذه المقولات على سبيل الاتساق، فلما كان جماعة من أهل الكلام يقولون ”أن الدليل على الله هو الله وحده، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في حاجته إلى الدليل، لأنه محدث والمحدث لا يدل إلا على مثله […] وأن العقل عاجز، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله“ (١) اتساقا منهم مع أصولهم الأفلاطونية، ونفيا لقدرة العقل على إقامة الدليل على وجود الله.

image 21
صورة لتمثال إيمانويل كانط

كان إيمانويل كانط المثالي ينظّر لاحقا بذات الفلسفة قائلا أنه ”من المستحيل على العقل النظري البرهنة على وجود الله بطريقة عقلية نظرية“(٢) وكان هذا الجزم الكانطي بعدم قدرة العقل على إقامة دليل على وجود الله، اتساقا من ذات القائل مع تأكيده المثالي ”على عدم قدرة العقل على الوصول إلى معرفة الشيء في ذاته أو الحقيقة المطلقة“(٣). أي أن الحقائق الموضوعية، أو الأشياء خارج الفكر، لا يمكن أن نعرفها بالعقل أو بالحس كما هي هي منفصلة عنا، وبالتالي فلا إمكانية للوصول إلى الحقائق المطلقة.

والمثاليون يفرقون بين مستويين من الواقع، فالأول هو: الشيء كما نراه/الشيء لذاتنا ”وهو الشيء الذي يوجد في وعينا على شكل صورة، وتكون ذاتية وليست سوى مظهر“(٤) والثاني هو: الشيء كما لو رأيناه أو لم نراه/الشيء في ذاته/الشيء مستقلا عن ذواتنا ”وهو الشيء خارج شعورنا، ويكون واقعيا، مؤلفا للواقع“ (٥) وهذا النوع من الإدراك في الفلسفة المثالية لا يقع، إذ الشيء في ذاته مثاليًا ”غير قابل للمعرفة“(٦). بل فقط يوجد ”الشيء لذاتنا“ أي رؤية ذواتنا للأشياء، فكل ما نقول أنه موجود فهو موجود في ذواتنا، ولا وجود حقيقي للأشياء يمكن معرفته بغير أن نقحم تلك الأنا.

وهنا يمكن أن ترى تأثير المثالية على نزعة الإنسانية من جانب تضخيم الأنا، فلا وجود لحقائق ثابتة في الخارج بمعزل عن الأنا، يمكن معرفتها، وإنما تُقحَم الأنا ووجهات النظر الذاتية للأشياء على أنها من أصول المعرفة، فتكون وجهة النظر بعيدًا عن حقيقة الشيء بمعزل عن تلك الوجهة؛ حجة في ذاتها، فلا يكون ”حد العلم على الحقيقة [هو] أنه اعتقاد الشيء على ما هو به“ وإنما يكون حده ”اعتقاد الشيء على ما تراه الأنا“ لأنه ليس في مقدورنا معرفته على ما هو به أصلا، وإنما يكون حده ”اعتقاد الشيء على ما تراه الأنا“!

ليضحى كلُّ من لم يُعجَب بحقيقة حول موضوع معين يبسط عدم إعجابه متخفيًا بستار وجهة نظره، دفعا للتشنيع عن حقيقة موقفه أنه لم يُعجَب بهذا الحق، أو لم يكوِّن حوله معرفة كاملة، وفي حين يجب البحث عن الحقيقة، يصير أكثر من لا يُعجَب بها باحثًا عن وجهات نظر على مزاجه، موافقة لذاتِه هو، لا للشيء في ذاته! إنه تضخيم للأنا والذات والنزعة الإنسانية على حساب الحقيقة.

image 22
كتاب نظرية ابن تيمية في المعرفة الوجود، من أفضل ما ناقش مسألة المعارف القبلية

وذي المسألة نجد لها أبعادًا في نظرية المعرفة عند جزئية المعارف القبلية، فالمثاليون يرون أن الحكم على الموضوع إنما يكون انطلاقا من الذات/الأنا/الشعور، وبالتالي فإن الشيء لا يمكن أن نعرفه كما هو منفصلا عن شعورنا، بل كل قائل لحكم عن شيء؛ إنما يقول حكمه انطلاقا من شعوره/ من ذاته. وبالتالي فلا يكون إدراك شيء موجودًا إلا والشعور/الفكر هو من صنع وجوده، فالشعور سابق عن الشيء المُدرَك، وبالتالي؛ فلا معرفة لحقيقة الأشياء من دون شعور سابق، وهنا نرى المثالية تتسق مع القول بمعارف قبلية ”فكر/شعور قبل الحس“، وتبني على ذلك إنكار معرفة الأشياء كما هي على الحقيقة من غير ذاتية أو شعور سابق. إذًا فلا حقيقة مطلقة عن الشيء، وإنما فقط علم بظواهر الأشياء.

image 23
رسمة لرينان ديكارت

وفي هذا نجد المثالية الديكارتية تقول «أنا أفكر، إذًا أنا موجود» فالفكر والشعور هنا، هما ما أُدرِك بهما الوجود، لا أن الوجود هو ما يشكِّل الفكر والشعور، وما دام الفكر هو المكوِّن لحقيقة الوجود، فاختلاف الأفكار يؤدي لاختلاف المدركات، ويؤدي لاختلاف الحكم على الأشياء الموضوعية/الأشياء في ذاتها! وهذا يتسق مع الصرح المثالي القائل بعدم إمكانية معرفة حقيقة الشيء في ذاته.

image 24
صورة لهيوم

وما كان يقوله المثالي هيوم من أن روحنا لا تدرك سوى صورة الأشياء (٧) فليس إنكارا للوجود المستقل للمادة/الشيء، بل يزعم هيوم بوجود مادة مستقلة عن ذواتنا خلافا لمثالية باركلي، لكن ذي المادة لا يمكن معرفة حقيقتها المستقلة عن فكرنا وشعورنا، وذلك لأننا لا نعرف عنها إلا الصور النسبية، فالمنضدة تصغر في نظرنا كلما ابتعدنا عنها، رغم أنها مستقلة عنا، إذًا فالمنضدة لا يمكن معرفة حقيقتها، وإنما معرفة ظاهرها لا غير. (٨)

وبالتالي فلا يمكن أن نحدد لأنفسنا موقفا في قضية إثبات وجود موضوعي لله مثلا، ويبقى النقاش طويلا بين المثبت والنافي حول الأشياء في ذاتها، هل كل شيء يشترط في وجوده أن يقبل الحس أم لا؟/ هل الأشياء موجودة وجودا عينيًا، أم أن وجودها في الخارج مطلق كلي؟، فيطول النقاش بين المثبت والنافي، فالمثبت يعطي حججا عن قابلية الحس للباري، والنافي يعطي حججا عن عدم قابليته للحس، لكن لن يقول أي منهما ما هي الحقيقة التي يجب أن تُعتقد، هل كل موجود يكون قبوله الحس شرطا في وجوده أم لا؟ فيستحيل أن نقول ما هي الأشياء في ذاتها!، لماذا؟ لأننا لن نعرف حقيقة الأشياء في ذاتها، لأن كلا منا سجين وجهة نظره (٩) وكل منا يدرك ظواهر الأشياء فقط، فلا سؤال إذًا عن حقائقها منفصلة عن فكرنا.

image 25
صورة غلاف

وهنا نجد أن ابن تيمية ينظّر مناقضا للنسق المثالي عن حقائق الأشياء، فمثالثة هيوم القائلة بأن وجود المادة يكون مستقلا عن ذواتنا لكن ذلك الوجود تابع لذواتنا لا أن ذواتنا تابعة له، يناقضها ابن تيمية بقوله أن: ”الحقائق الخارجية مستغنية عنّا، لا تكون تابعة لتصوُّراتنا، بل تصوُّراتنا تابعة لها“ (١٠) ”فإن حقائق الموجودات ثابتة في نفسها سواء اعتقدها الناس أو لم يعتقدوها وسواء اتفقت عقائدهم فيها أو اختلفت وإذا اختلف الناس فيها على قولين متناقضين لم يكن كل مجتهد مصيبا” (١٩).

فعند ابن تيمية: يعلم العقل حقيقة الشيء في ذاته، وهو الذي يعبر عنه بقوله ”الشيء على ما هو به“. فــ ”حد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به، وسواء كان عن ضرورة حسٍ، أو عن بديهة عقل، أو عن برهان استدلال“ (١١)

ومن زاوية أخرى فإن عدم معرفة الشيء في ذاته دوما ما يكون مبررا للظلم الواقع لأن الظلم لا يمكن أن يعرف في ذاته، وما تراه أنت ظلما أراه أنا عدلًا، وكما أن رؤيتك للظلم عبارة عن وجهة نظر ذاتية، فيمكن أن تكون رؤيةٌ مناقضة وجهة نظر ذاتية أيضًا، فأنت لا تعرف حقيقة الظلم في ذاته! فلا يوجد موقف يعتبر هو الحق المطلق في القضية، وفي هذا يقول لينين:

image 26
صورة غلاف

”أن العامل الذي يأكل السجق والذي يتقاضى ٥ فرنكات في اليوم، يعرف جيدا جدا أن رب عمله ينهبه وأنه يأكل لحم الخنزير وأن رب العمل سارق، وأن السجق لذيذ الطعم ومغذ للجسم، لا شيء من هذا القبيل، يقول السفسطائي البرجوازي سواء كان اسمه بيرون أو هيوم أو كانط: رأي العامل في هذا الصدد هو رأي خاص أي ذاتي، ويحق له بالقدر نفسه أن يظن أن رب العمل محسن إليه وأن السجق مصنوع من جلد مفروم، لأنه لا يستطيع أن يعرف الشيء في ذاته“(١٢)

ففلسفة عدم معرفة الشيء في ذاته أحق أم باطل، أعلى هذا الأساس أم على نقيضه، دوما ما تكون مبررة للنظم الرأسمالية.

image 27
صورة غلاف

وكما كان يقول جورج بولتزير أن هؤلاء المثاليين يزعمون أنهم على الحياد في كل شيء (١٣) فقد كان ”الشكاك أيضا يصححون كل اعتقاد ويزعمون أن كل من اعتقد شيئا فهو على دين صحيح“ (١٤) فعدم امكانية معرفة الشيء في ذاته، تنسحب أيضا على العقائد، فلا ندري أي العقائد حق، وبالتالي فكلها صحيحة لذات المعتقِد. فكلٌّ وما يرى، وكل ووجهة نظره الذاتية.

ومن ثم امتد هذا المذهب المثالي اللاأدري إلى أن برز مذهب المصوِّبَة، وهم القائلون بأن ”كل مجتهد مصيب في فروع الشريعة”(٢٠) فلم ”يجعلوا لله في الأحكام حكما معينا، حتى ينقسم المجتهد إلى مصيب ومخطئ، بل الحكم في كل شخص ما أدى إليه اجتهاده” (١٥)

لكن عند ابن تيمية مع أن الشيء يعرف في ذاته كما يقول فلاسفة المادية، فإن اختلاف وجهات النظر في حقيقة الشيء، أو الحكم، لا تغطي كون الصواب في القضية واحد، ومن ثم فالمختلفون في وجهات النظر لا عبرة لاختلافهم، وإنما العبرة بصاحب الحق لا غير، فإن ”عُني بالمصيبِ: العالمُ بحكم الله في نفسِ الأمر، فالمصيب ليس إلا واحدا فإن الحق في نفس الأمر واحد“ (١٦)

ولاتساق كل من ابن تيمية وفلادمير لينين مع ماديَّتهما، ترى تطابقًا في جعل القول المثالي اللاأدري المنكر للعلم بالشيء في ذاته محض سفسطة:

”يقول السفسطائي سواء كان اسمه بيرون أو هيوم أو كانط أن رأي الشخص في مسألة هو رأي خاص أي ذاتي، ويحق له بالقدر نفسه أن يظن نقيضه لأنه لا يستطيع أن يعرف الشيء في ذاته“ (١٧)

لينين

وقول لينين هنا هو عين ما كان يقوله ابن تيمية عن ذات المذهب السفسطائي المنكر لحقيقة الشيء في ذاته، والمنكر لاستطاعة الشخصِ معرفةَ الشيء في ذاته، إذ يقول:

”حُكي عن بعض السفسطائية أنه […] لم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل، وإنما هو من جنس ما يحكى أن السفسطائية أنكروا الحقائق ولم يثبتوا حقيقة ولا علما بحقيقة“. (١٨)

ابن تيمية

– المراجع:

١) كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر بن اسحق الكلاباذي، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ص٣٧.
٢) إيمانويل كانت، بدوي عبد الرحمن، ص٣٢٨.
٣) عن كانط بواسطة: فصول، المجلد ٧٠، ص٦٨.
٤) المادية والمثالية في الفلسفة، جورج بولتزير، ص٨٩
٥) المرجع السابق نفسه، ص٨٩.
٦) ملحق موسوعة المعرفة، عبد الرحمن بدوي، ص٢٠٠
٧) نقلا عن لينين: المادية والمذهب النقدي التجريبي، ص٢٢.
٨) جورج بولتزير، مرجع سبق ذكره، ص٨٩.
٩) المثال إعادة صياغة لمثال جورج بولتزير، المرجع السابق نفسه، ٩٠.
١٠) الرد على المنطقيين، ابن تيمية، تحقيق: عبد الصمد الكتبي، مؤسسة الريان، الطعبة الأولى: ٢٠٠٥م، ص٧١.
١١) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج٧، ص٤١٦.
١٢) المادية والمذهب النقدي التجريبي، لينين، دار التقدم، موسكو، ١٩٨١م، ص٢٣٤.
١٣) جورج بولتزير، مرجع سبق ذكره، ص٩٠
١٤) أنظر: المرجع في تاريخ علم الكلام، زابيته شميتكه، ترجمة أسامة شفيع السيد، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى ٢٠١٨م، ص٢٢١.
١٥) الاستقامة، أحمد عبد الحليم ابن تيمية، ضبط نصه وخرجه: حين أبو الخير، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى ٢٠١٣م، ص٣٩.
١٦) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ج٦، ص٢٨.
١٧) أنظر: المادية والمذهب النقدي التجريبي، لينين، دار التقدم، موسكو، ١٩٨١م، ص٢٣٤.
١٨) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج١٩، ١٣٧
١٩) المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين للبصري، ج٢، ص٣٧١.
٢٠) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج١٩، ص١٣٨.

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *