image 2024 06 06 171929663

مراجعة كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تأليف: ابن تيمية

الجواب الصحيح لابن تيمية، تفصيل بليغ في كل اتجاه، لدحض فكرة اختصاص رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالعرب دون غيرهم. ونقده الموجه لقائليها، كثير منه يصح توجيهه لأصحاب فكرة وحدة الأديان، سواء كان من مرتكزاتها انحصار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في العرب، أو عدم إرساله إلى اليهود والنصارى

د

المجلدات الأولى من الجواب الصحيح لابن تيمية، تفصيل بليغ في كل اتجاه، لدحض فكرة اختصاص رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالعرب دون غيرهم، ونقده الموجه لقائليها، كثير منه يصح توجيهه لأصحاب فكرة وحدة الأديان، سواء كان من مرتكزاتها انحصار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في العرب، أو عدم إرساله إلى اليهود والنصارى، فإن الأولى مردها إلى الثانية، والنقد في مجلداته الأولى متجه لكليهما.

الاستقراء التقابلي في الجواب الصحيح

بداية المجلد الثاني من الجواب الصحيح، تلحظ إرساء لقواعد كلية بالغة الدلالة على قوة تصور ابن تيمية للنبوات، بل وانعكاس تصوره لكمال العلم على كمال النبوة، يرى ابن تيمية في الفصل الأول أن التصديق بنبوة عيسى وموسى لا تصح عقلا مع التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويضع ذلك في سياق تهافت القول بإمامة مثل المزني وابن القاسم والأثرم في الفقه مع القول بضعف فقه مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد.

اختلاف الفقهاء للطبري
اختلاف الفقهاء للطبري

ويطرد ذلك على كل علم، النحو، والهيئة، والطب، ونحوهم. ثم يعكس ذلك على الكتب المنزلة، فالقول بفضل التوراة والإنجيل دون القرآن، كالقول بفضل دلائل عيسى وعلومه مما يدعيه النصارى على دلائل محمد وعلومه مما جاء به الإسلام، بل يرى طرق معرفة نبوة محمد، إن طعن فيها، فإن ذلك يشتمل بالضرورة الطعن في طرق معرفة نبوة عيسى وموسى عليهم السلام، وهو من جنس الطعن في فقه أبي حنيفة مع القول بإمامة أبي الليث، أو الطعن في فقه أحمد مع القول بإمامة ابن قدامة.

وهذا من نوادر الاستقراء التقابلي الذي يعتمد على تجريد الكليات من الجزيئات الموضوعية فيما يتمكن الإنسان من معرفته، ثم عكس ذلك على جزئية النبوات هذه، فيكون الكلام مبنيا على العلم والعدل، وهذا يمكن استثماره في موضوعات شتى مما يدور من فلسفات اليوم.

إقتباس من الجواب الصحيح

“وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء، فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره، بل من اعتقد كذبه وصدق غيره، لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم، وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم” 1

مقالة ألوهية عيسى عليه السلام في الجواب الصحيح

أقل مفارقة يوضحها ابن تيمية في كون عيسى لم يكن إلهًا، هو كلامه وصوته ونغمته، يشرح ابن تيمية أن الجني إذا حلَّ في ابن آدم تغيرت أحواله تغيرًا تامًا، بل وتحولت نغمته وخرج صوته عن طوره، فكان صوتًا يجزم كل من يعرف المصروع أنه ليس بصوته، ثم يقول: فكيف بمن حل به الله سبحانه وتعالى -مع بطلان الحلول-؟ وعيسى لم يتغير صوته عن صوت الأوادم، ولا نغمته، فلم يؤثر ذلك ولم يذكره كتاب، بل كان يتكلم كالبشر بصوت بشري لا يتميز عن أصوات البشر.

من أين استفاد ابن تيمية: فكيف بمن حل به الله؟ في الجواب الصحيح

هذا مستفاد من حادثة تكليم الله لموسى، حيث سمع من الله صوتا خارقا مخالفًا لما يُعهد من الأصوات، بما يقطع أن هذا لا يقدر على التكلم به إلا الله. بخلاف المسيح فصوته مجردًا لا يدل على نبوته، فضلا على أن يدل على ألوهيته.

هذا من باب البحث عن الطرح المتناسق، والاتساق بين المقالات، ابن تيمية هنا يقول للنصارى: لو لفقتم المقالة القائلة بمغايرة صوت عيسى حين لاهوتيته لأصوات البشر، بناء على ما عهدتموه مما سمعه موسى من قبل المسيح، لكانت شبهتكم قوية، لكن والحال أنكم تقولون: صوته طيلة حياته كصوت غيره من البشر فهذا لا يتسق مع إثبات إلهيته كمتكلم سواء تكلم بالإنجيل، أو بغيره. والطريف أن من يجعل كلام الإله مخلوقًا، لا يستقيم له النظر في هذا الاعوجاج الذي يلزم الطرح النصراني.

مسألة الترجمة في الجواب الصحيح

لابن تيمية في المجلد الثاني من الجواب الصحيح كلام جد نفيس عما يتعلق بموضوع الترجمة، وعلاقة ذلك ببعض الشرائع، فالبناء جد متماسك، والذي أراه، أن الشيخ لا يترك ثغرة ليجيب عليها غيره لاحقا، بل كل استشكال يطرأ على بال، تجد جوابه في سياق وضع له.

ذي الطريقة في التأليف عزيزة، أعني هيكلة العمل منهجيًا بترتيب، بحيث أنك لو قرأت فصول مستقلة من المجلد الثاني، دون المجلد الأول، فاتتك الفائدة المرجوة من المجلدين معا، وهذا يغفل عنه من يعمد إلى اختصار مؤلفات ابن تيمية التي وقع تأليفها بذي المنهجية، فإنه أول ما يلغي، يلغي الأداة، والتراتبية في الطرح، بل كثير من المواضيع التي قد تراها فضولًا كبعض فروع الفقه الحنفي فيما يتعلق بقراءة القرآن بغير العربية، تجد أثرها في تشتيت دعوى الخصم بأنها غير دقيقة.

فضلًا عن التفصيلات الفقهية المتعلقة بترجمة القرآن، ومعانيه، فضلًا عما يلزم المسلم قراءته بالعربية إن لم يكن عربيًا، الكتاب طافح بالتحليلات التاريخية، الجغرافية، الفلسفية، فلسفة اللغة، فضلا عن سيره في الكتاب على أربع خطوط متوازية لا يُغلِّب فيها خطًا على خط، وقد يصعب الفصل بينها:

  • نقد النصرانية الموجه للنصارى
  • نقدها الموجه للمسلمين
  • الدفاع عن الإسلام الموجه للنصارى
  • الدفاع عن الإسلام الموجه للمسلمين.
صورة للتلمود، النسخة العبرية
صورة للتلمود، النسخة العبرية

تناول ابن تيمية لمسألة الترجمة في الجواب الصحيح

كان هناك دعوى نصرانية، مفادها أن التوراة والإنجيل جرت ترجمتهما إلى ٧٢ لغة لغرض إقامة الحجة على البشر جميعًا، تناولها ابن تيمية من جوانب عدة، وأسهب في نقضها، وكان من بين تلك الجوانب، جوابه أن: “أن الألسنة الموجودة في بني آدم في جميع المعمورة في زماننا وقبل زماننا أكثر من هذا” 2 أي أكثر من ٧٢ لغة، وهذا مما تجده في علم اللغة التطبيقي، مدمجًا بعلم الإحصاء، مثلًا يذكرون أنه “يوجد في العالم ٧ آلاف لغة، حسب إحصاء ٢٠٠٥م” 3

وبهذا يجب أن يكون الإنجيل مترجمًا لكل ذي اللغات حتى تقوم حجته، ثم الإتيان برجل عالم بالإنجيل الاصلي يكون متقنًا لكل ذي اللغات (٢٠٠٠ لغة)، حتى يؤكد اتفاقها في المعنى، وهذا لا يستقيم لبشر. فضلًا عن ذلك، يظهر ابن تيمية جانبًا من علم اللهجات، الذي هو فرع عن علم اللغة مدمجًا بعلم الجغرافيا، يقول:
“اللسان الواحد كالعربي والفارسي والتركي جنس تحته أنواع مختلفة لا يفهم بعضهم لسان بعض إلا أن يتعلمه منهم” 4 وهذا مما يوهن دعوى إقامة الحجة بالترجمة إلى ٧٢ لغة.

هذا الكلام تعرف قيمته بالنظر في موضوع علم اللهجات، “الذي هو فرع عن علم اللغات، يهتم بدراسة علمية اللهجات اللغوية، ويدرس الاختلافات في اللغة في المقام الأول، على أساس التوزيع الجغرافي” 5 فمع سهولة الإحصاء في علم اللغة التطبيقي، وسهولة تطبيق نظريات علم اللغة الاجتماعي اليوم Sociolingustics، بل وإفناء العمر في تعلم اللغات، لا يعرف في البشر رجلٌ تمكن من تعلم ٧٢ لغة، فضلا عن لهجات من تسمى اللغات باسم بلدانهم.

image 2024 06 06 175551178
صورة

يقول ابن تيمية:

“من الذي منكم لو قدر أن هذه الكتب التي باثنين وسبعين لسانا هي عن الحواريين، وهي موجودة اليوم، فمن الذي يمكنه أن يشهد بموافقة بعضها بعضا؟ وذلك لا يمكن إلا لمن يعلم الاثنين وسبعين لسانًا، ويكون ما عنده من الكتب يعلم أنها مأخوذة عن الحواريين ويعلم أن كل نسخة في العالم بهذا اللسان توافق النسخة التي عنده.

قد وجدنا النسخ المعربة يخالف بعضها بعضا في الترجمة مخالفة شديدة تمنع الثقة ببعضها، وقد رأيت أنا بالزبور عدة نسخ معربة بينها من الاختلاف ما لا يكاد ينضبط وما يشهد بأنها مبادلة مغيرة لا يوثق بها، ورأيت من التوراة المعربة من النسخ ما يكذب بكثير من ترجمتها طائفة من أهل الكتاب.

فكيف يمكنه أن يجمع جميع النسخ التي بالاثنين وسبعين لسانا ويقابل بين نسخ كل لسان حتى يكون فيها النسخة القديمة المأخوذة عن الحواريين؟ ثم يقابل بين نسخ جميع الألسنة ولا يمكن ذلك إلا لمن كان عارفا بالاثنين وسبعين لسانا معرفة تامة، وليس في بني آدم من يقدر على ذلك، ولو قدر وجود ذلك لم يُعرف أن القادر على ذلك فعل ذلك وأخبرنا باتقاقها” 6

صورة لمخطوط الجواب الصحيح
صورة لمخطوط الجواب الصحيح

نموذج لتفنيد الاعتراضات في الجواب الصحيح

من الاعتراضات النصرانية التي فندها ابن تيمية، قولهم: “نعلم أن الله عدل، وليس من عدله أن يطالب أمة يوم القيامة باتباع إنسان لم يأت إليهم ولا وقفوا على كتاب بلسانهم” 7 وهذا الاعتراض يسوقه بعض الجهمية في صيغ مختلفة، منها دعوى أن الله لم يتعبَّدنا بمعرفة القرآن على قواعد العربية، فهذا من جنس قولهم: لم يتعبدنا الله بكتاب نزل بغير لغتنا، يقول بشر بن غياث المريسي: “وعلى الخلق أن يتعلموا لغة العرب وما تعبدنا الله بهذا؟ كل إنسان يقول بلغته وبقدر معرفته، وما كلف الله الخلق فوق طاقتهم، ولا طالب أولاد العجم بلغة العرب” 8

الحيدة والاعتذار للكناني
الحيدة والاعتذار للكناني

مستوى تفكيك الشبهات في الجواب الصحيح

وأنا أقرأ الجواب الصحيح لابن تيمية، طرح في مقدمة المجلد الأول شبهة تظهر لفئة واسعة جدًا أنها تافهة إلى أقصى حد، وهي أن محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى العرب فقط، بدأ ابن تيمية في نقد ذي الشبهة حصرًا في المجلد الأول، وهو مواصل في نقدها في المجلد الثاني، بما يُجمع في أكثر من ٩٠٠ صفحة.

٩٠٠ صفحة، كلها تفصيلات علمية دقيقة تصنع وعي صلب، وملكة نقدية، وثقة حقيقية -غير زائفة-، في نقد شبهة واحدة: هل بعث النبي للعرب فقط، أم لهم ولغيرهم، يمر على بديهيات، فيفصل فيها أكثر من عشر صفحات، حتى أنك تستغرب، والحال أنه يملأ وعيك بالتفصيل، لا يوجد مجازفة لدى ابن تيمية، كل كلمة لا بد أن تُستثمر، وتوضع في محل يليق بخدمة البحث، ويتم استغلالها لتكوين نقد يبتلع الشبهة تمامًا. يجب أن يكون البحث أبعد ما يكون عن السذاجة.

العربية لغير العرب في الجواب الصحيح

ابن تيمية، في موضوع اللغة العربية لغير العرب، تم تحميله شحنة سلبية إلى حد كبير في كثير من الأوساط غير العربية، ولو يطلع مثل الأمازيغي المسلم، أو غير المسلم، على أطروحته في موضوع «العربية والإسلام» سيجد فيها ما لم يتوقع أن ابن تيمية يقوله.

مرة كان أحدهم على كلوب هاوس يقول: تقول لي ابن تيمية شيخ الإسلام وهو يقول من تكلم بغير العربية وهو قادر عليها فليس بحسن. يتصور أن ابن تيمية يتعامل مع غير العرب على أنهم مسلمون درجة ثانية، وهذا من سوء التصور والترتيب، وغالبا ما يحصل بسبب من يدافع على العربية باستعمال كلمات لابن تيمية في غير السياق الذي وضعت له.

فلما تقابله بقوله في الجواب الصحيح: كثير من العجم لا يعرف جواب جملة بالعربية، وهو من أولياء الله الصالحين، أو أن الله لم يفرض على كل مسلم فهم كل آية في القرآن، بل ويقول: الذي هو فرض لغير العرب؛ تعلم الفاتحة وسورتين والأذكار المأمور بها في الصلاة، بالعربية. وكل الشرائع، بل والقرآن يمكن شرح معناه بغير العربية، بل وترجمة تفسيره، ويكون العامل بما فيه من معاني مأجورًا محققا للولاية. يجد نفسه قد التزم شيئا مشوهًا يصعب عليه تعديله. لكن الناس لا تقرأ، تحيا وتموت على شحن وهمي تجاه رمز من الرموز، وطرحه قد يكون خادمًا وموجِّهًا لما تراه حقًا طبيعيا من حقوقها، كالكلام بلغة أو لهجة ليست بعربية تبعا لكونهم ليسوا من جنس العرب.

المراجع

  1. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية ٧٢٨ه‍، تحقيق: علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية ١٤١٩ه‍- ١٩٩٩م، ج٢، ص٥ ↩︎
  2. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية ٧٢٨ه‍، تحقيق: علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية ١٤١٩ه‍- ١٩٩٩م، ج٢، ص٨١. ↩︎
  3. ثنائيو اللغة، فرانسوا جروجون، مؤسسة هنداوي، ص٢٠. ↩︎
  4. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية ٧٢٨ه‍، تحقيق: علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية ١٤١٩ه‍- ١٩٩٩م، ج٢، ص٨٢. ↩︎
  5. علم الاجتماع الأدبي منهج سوسيولوجي في القراءة والنقد، أنور عبد الحميد الموسى، ص٣٠٠. ↩︎
  6. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية ٧٢٨ه‍، تحقيق: علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية ١٤١٩ه‍- ١٩٩٩م، ج٢، ص٩١-٩٢. ↩︎
  7. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية ٧٢٨ه‍، تحقيق: علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية ١٤١٩ه‍- ١٩٩٩م، ج٢، ص١٠٢ ↩︎
  8. الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن، عبد العزيز بن يحيى الكناني ٢٤٠ه‍، تحقيق: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الثانية ١٤٢٣ه‍- ٢٠٠٢م، ص٨٧ ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

أرشح لك:

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

ردان على “مراجعة كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تأليف: ابن تيمية”

  1. الصورة الرمزية لـ سامي

    بارك الله فيكم، هناك موضوع لو تتطرق اليه و هو التشابه بين نقد ابن تيمية للمنطق و نقد فرانسيس بيكون

    لانو لاحظت تشابه كبير في الطرح كما أن ابن تيمية يشنع عليه كوصفه بالرجعي بينما بيكون يوصف كمحرر للعقل. يارك الله فيكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *