image 2024 05 19 142315321

مراجعة كتاب بحوث سوفييتية في الأدب العربي

أنهيت قراءة كتاب (بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي) وهو من تأليف جماعة من الباحثين المستعربين من الاتحاد السوفييتي، يمثّل مجموعة دراسات وأبحاث مهتمة بتاريخ الأدب العربي، طبعت عن دار رادوغا، سنة ١٩٨٦م، في ٢١٩ صفحة

د

مثل هذه الكتب – بحوث سوفييتية في الأدب العربي- قيمتها الأساسية تكمن في توظيفها ضمن الجدل مع من يسلّم بالدراسات السوفييتية الشيوعية من العرب، أو من يسلّم بأسس الدراسة المادية للتاريخ، والتي تنعكس فيها أسس علم الاجتماع الماركسي، فكثير من نتائج هذه الدراسات، مناقض في الغالب لما يلوكه الشيوعيون من العرب حول التراث الأدبي.

“ويكاد فن الكلمة لدى جميع الشعوب يُسجّل بدايته بالشعر، ولكن ما أقل الأمثلة على تدوين شعر شفوي لدى أي شعب مثل العرب بهذا الكمال والتمام، وحفظه والحفاظ عليه بمثل هذه العناية، وكثيرا ما سافروا ورحلوا وجالوا وجابوا باحثين عن البدو الرحل من الأعراب، وجمعوا وألفوا العديد من الكتب والمجاميع من نتاجات اللغة العربية الشفاهية، ولم تتكدس هذه النتاجات كجثث الموتى على صفحات الكتب المخطوطة، وإنما دارت في التداول من جديد” 1

تناول الكتاب مواضيع شتى، من بينها دراسة كوديلين لمشكلة صحة الأصل للشعر الجاهلي، وتعرض فيها لآراء أوربية وعربية، ومنها بحث طه حسين، الذي كان منسوخا عن أبحاث مرجليوث، لكن النقطة الأهم، هي تناوله لإشكالية شح المعطيات الوثنية في الشعر الجاهلي، فقلما يذكر في عيون الشعر وسم الآلهة الجاهلية باللات والعزى، بل يأتي ذكر الله في مختلف الأشعار. فكيف تم تناول هذه الجزئية؟

تكمن إحدى قيم الشعر الجاهلي من حيث وسيلة نقله، في رصد أسس عمليات النقل الشفوي التي جرت عليه، فالمسلمون إذ كان حفظ التاريخ الشفوي لديهم بالغا حدّه الأقصى، جرى عند نقل الشعر الجاهلي شفويا إزالة بعض العلائم الوثنية والتي أبعدت عنه تدريجيا.

فمثلا، يأتي في رواية معتمدة بيتٌ للأعشى يقول فيه: حلفت بالملح والرماد، وبالنار وبالله. على أن الرواية الأصلية للبيت قد جاءت في الأغاني كالتالي: حلفت بالملح والرماد، وبالعزى وباللات. فهذا يفسر كيفية تداول المسلمين للشعر الجاهلي حتى يضمنوا شرعية حفظه، فكانت إزالة العلائم الوثنية وتطهير الشعر الجاهلي منها، فكرة ذات أهمية تسمح لذلك الشعر بالعودة إلى التداول من جديد بعد الإسلام، من دون بقاء حمولته الوثنية.

image 2024 05 19 151045015
كتاب الأغاني للأصفهاني

تناولت الدراسات أمورا شتى، ولعل أهمها من حيث القيمة العلمية؛ تحليلات معينة حول الأدب العربي المعاصر، والذي تشكل ضمن تكوّن العلاقات الرأسمالية في بلدان الشرق العربي مع انحلال الإقطاع وتكوين فئات اجتماعية خليقة بالمجتمع الرأسمالي.

“أدب المنفلوطي هو انعكاس فريد الطراز عن مزيج مركب من التقاليد الأدبية الشرقية والغربية، وقد تلقى التحصيل التعليمي الديني التقليدي في الأزهر واعتنق أفكار الشيخ محمد عبده الإصلاحية، ويؤيد المنفلوطي في مقالاته وأبحاثه دوما أفكار المتنورين من الفرنسيين غالبا، بنزعتهم المتأثرة بجان جاك روسو، وقد تغنى معجبا بحرية عالم الحيوان والاحياء وحرية الإنسان الطبيعي عند فجر التمدن” 2

المنفلوطي
المنفلوطي

كانت حصيلة انتقال البلدان العربية إلى الرأسمالية أن هذا الانتقال جرى في ظروف نضال التحرر الوطني سواء ضد العثمانيين، أو ضد الاستعمار الأوربي، واصطحب هذا النضال نمو الوعي الأدبي العربي، وتظافر في الأيديولوجية التنويرية التي تكونت خلال تلك الحقبة الاحتجاج على استعباد الشرق مع المطالبة بتنوير الجماهير ومحاولة استرجاع جبروت العرب القديم، لكن مع استيعاب التمدن الأوروبي والعلم والأدب الأوروبيان. وفي هذا السياق، برز تأثير محمد عبده الذي تناول النبي صلى الله عليه وسلم من جانب شخصي فكري، وراج ذلك إبان انتشار كتابات لوبون الذي كان يعتبر النبي عبقريًا، لا رجلا موحى إليه، فتفرع عن التلفيق الذي أسسه عبده محاولة دراسة (النبي محمد صلى الله عليه وسلم) من منظور إنساني، فما الأثر الذي كان؟

“تناول محمد حسين هيكل شخصية نبي الإسلام في كتابه (حياة محمد) سنة ١٩٣٥م، بروح مذهب روسو العقائدي بخصوص الإنسان الطبيعي، أي نفس المذهب الذي وجد تجسيده الفني في شخصيات روايته (زينب)، واعتمد عباس محمود العقاد في سلسلة العبقريات الإسلامية المعروفة على كل من نظرية نيتشه حول الإنسان الفائق وفلسفة توماس كارليل، عن شخصية البطل، وكذلك النظرية المفسرة اجتماعيا بخصوص الانتقاء الطبيعي، ويحاول طه حسين الذي اتبع مبادئ ديكارت العقلانية، في عدد من أبحاثه التاريخية ومنها الفتنة الكبرى في قسمي (عثمان) و(علي وبنوه) وكذلك ثلاثية (هامش على السيرة) ١٩٣٣م- ١٩٣٩م، والتي تمثل معالجة أدبية للأحاديث النبوية وتراجم أصحاب الرسول ورجاله تعليل ظهور الإسلام كظاهرة اجتماعية تاريخية وكحصيلة للتأثير المتبادل وتركيب الحضارات المختلفة في منطقة الشرق الأدنى” 3

“ولكن التأمل الفكري في شخصية وأنشطة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يصبح ممكنا إلا عقب إجراء الحركة الإصلاحية في مجال الدين الإسلامي، وقد أعطى تفسيرا جديدا للبعثة النبوية الشيخ محمد عبده الذي طبق لأول مرة على الأنبياء معيارا بشريا” 4

كتاب الحسين شهيدا لعبدالرحمن شرقاوي
كتاب الحسين شهيدا لعبدالرحمن شرقاوي

فمثل هذه الاستقراءات التي تذكرني بابن تيمية في (بغية المرتاد) وهو يشرح مادة كل متكلّم أو فيلسوف من أين أخذت، حري بها أن تكون موضوعا لدراسة تاريخية موسعة للأدب العربي المعاصر. وعن التحريف في المسرحية التاريخية في الأدب العربي المعاصر جاء في الكتاب:

“وإذا كان المؤلفون المسرحيون قد أصروا في السابق على جعل المشاهدين شهود عيان على تمثيل الأحداث التاريخية الحقيقية، فإن المؤلفين الآن يؤكدون بإصرار أما في المقدمات، وإما في التوطئات للعروض المسرحية فرضية ما يجري على خشبة المسرح.

وهكذا مثلا ينص عبد الرحمن الشرقاوي في مقدمة مسرحيته الثنائثة (الحسين ثائرا) و(الحسين شهيدا) خصيصا على أنه ليس مؤرخا ولهذا لم يقيّد نفسه بالتمسك الدقيق بالحقائق والوقائع التاريخية. ولكن حين نسب الشرقاوي في ثنائيته عن الحسين أفكارا اشتراكية وخطبا مشبعة بروحها استدعى ذلك توجيه العديد من المؤاخذات إلى المؤلف، ولم يسلم من الاتهام بتحريف شخصية البطل الرئيسي وتشويه صورته” 5

كتاب ممتاز، أنصح به، مع اعتبار أن قيمته الأساسية تكمن في وظيفيته النقدية، أي توظيف نتائج شطر من أبحاثه ضمن الجدل الإسلامي-الشيوعي العربي. أما القيمة العلمية الإضافية، فتكمن في الأبحاث المتناولة للأدب العربي المعاصر.

الهوامش

  1. بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي، المؤلف: مجموعة مؤلفين، مجموعة مقالات، دار رادوغا-موسكو، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، ص٤٣، من بحث خالدوف. ↩︎
  2. بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي، المؤلف: مجموعة مؤلفين، مجموعة مقالات، دار رادوغا-موسكو، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، ص١١٥، باختصار ↩︎
  3. بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي، المؤلف: مجموعة مؤلفين، مجموعة مقالات، دار رادوغا-موسكو، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، ص١٦٥. ↩︎
  4. بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي، المؤلف: مجموعة مؤلفين، مجموعة مقالات، دار رادوغا-موسكو، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، ص١٦٤ ↩︎
  5. بحوث سوفييتية جديدة في الأدب العربي، المؤلف: مجموعة مؤلفين، مجموعة مقالات، دار رادوغا-موسكو، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، ص١٨٨ ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

أرشح لك:

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *