ميشيل فوكو في كتابات ومراجعات عديدة كان يتم تقديمه كفيلسوف المناطق المظلمة، أي أن فلسفته تقوم على البحث في تاريخ المفهوم من داخل الألفاظ والرموز غير المفكر فيها لتحاول تشكيل فهمٍ للنسق الذي كان يتحكم في تلك المرحلة، هذا النسق تتحكم فيه ظروف اجتماعية متعددة، يدخل فيها حتى المناخ وعدد السكان والجغرافيا، وما إن تتغير تلك الظروف، تتغير السلطة، ويتغير النسق، وبهذا يتغير ذلك مفهوم ذلك الشيء إلى مفهوم آخر، حيث يقع مفهوم جديد يعيش قطيعة مع المفهوم القديم.
المفهوم عند ميشيل فوكو ومنعطفات تحوله
ذلك المعنى طبقه ميشيل فوكو مثلًا على الجنسانية في صورة الزواج، يعبر مفهوم الزواج في القديم عن فعل بين رجل وامرأة، في العهد الفيكتوري، وقعت ظروف اقتصادية دعت الأقطار إلى احتلال غيرها لاستغلال ثرواتها، هذا الأمر، ساهم في الفترة الفيكتورية على صناعة نسق يتبلور من خلاله مفهوم جديد للزواج: إنه الإنجاب، لتكثيف أعداد أفراد المجتمع للمساهمة في تكثيف عدد أفراد الجيش.
أثر تحول المفهوم، في نظر ميشيل فوكو
هذا المفهوم قام بإعادة تعريف لمفهوم الشذوذ، قديما كان الشذوذ يعبر عن علاقة بين رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، لأن الزواج مفهومه: علاقة رجل بامرأة، لكن في حين يصبح مفهوم الزواج هو الانجاب، سيتخذ مفهوم الشذوذ كل أشكال اللا إنجاب، فالمرأة التي بلغت سن اليأس يعتبر الزواج بها شذوذًا، والرجل العقيم يعتبر الزواج به شذوذًا، وهكذا. إلى أن جاء عصر تالي، ووقعت من خلاله ظروف تالية أدت إلى قطيعة مع المفاهيم المتعلقة بالجنسانية التي كانت في العصر الفيكتوري.
المفهوم كصناعة للسلطة في فلسفة ميشيل فوكو

إذًا، المفاهيم هي صناعة السلطة، تقع عبر تأثير الظروف ككل على المجتمع، إنها من بنات الأنساق، وكل مفهوم من المفاهيم، لا يجوز أن يعبر عن الحقيقة الموضوعية، إلى داخل ذلك النسق، فإذا خرجت إلى نسق آخر سيتغير مفهومك لذلك الشيء، إذا، المفاهيم هي عبارة عن أفكار تتشكل داخل الأنساق وتموت داخلها. كانت هذه الفلسفة التاريخية التي مارسها فوكو، مبررة بأبحاثه في العقاب والجنون والجنسانية والشذوذ، ونحو ذلك، وهي تبحث بالتحديد عن محل القطيعة المعرفية، أما حدود هذه القطيعة فهي المناطق المظلمة في التاريخ. هذا أمر جد شائع
ثبات المفهوم عبر كل الأنساق
لنحاول توسيع ذي الفلسفة قليلا لتستوعب المناطق غير المظلمة، كيف ستكون النتائج؟ نحن نرى أن ”الزواج“ الذي نتبنى مفهومه ونحامي عنه بأنه ”الحق“، هو يمثل خطًا ممتدا عبر كل الأنساق التاريخية بلا استثناء! وسواء تغيرت الظروف أم بقيت، تحول خطاب السلطة أم لم يتحول، طرأت أنساق جديدة أم لم تطرأ، فإن مفهوم الزواج الذي يكون بين رجل وامرأة، يتخذ موضع القدر المشترك عبر كل ما يسميه فوكو بالأنساق، إنه حاضر بصورة رسمية في كل من تلك الأنساق، كذلك العقاب، والجنون، والشذوذ، ومفهوم أي شيء نعبر عنه أنه حق موضوعي تاريخيًا. هذا المفهوم الحق نجد أنه لا يتأثر بأي ظرف ويبقى مشكلًا لحضوره.
لا يوجد من ينكر تشكيل الظروف، أو السلطة لـ “مفاهيم” تعبر عن “بنات النسق الصرفة”، والتي يتم تجاوزها ومقاطعتها بتجاوز النسق، أو من ينكر تاريخانيّة بعض “المفاهيم”، هي تعبر عن مفهوم المناطق الضيقة، وتبقى كذلك، لا ينعكس بحثها الفلسفي التاريخي كنتائج موسعة وشاملة لتبتلع مفهوم أرسخ منها وأثبت في كل عصر وذات بقاء ومقاومة.
فلسفة ميشيل فوكو وبحث شروط تكون المفهوم
لم يكن فوكو يكتفي بالسرد التاريخي والمتسلسل للأحداث، بل كان يعمل على تحليل الكلمات والرموز، والملفوظات، بما يسمى حفرًا في التاريخ القديم، وقد أعرب بنفسه عن ذلك في كتاب همّ الحقيقة، أنه يعيش بحثًا عن المعنى.
وإن تكن فلسفة فوكو تقوم في النهاية على البحث عن شروط تكوّن المفهوم. فإنها كما ذكرت، تسخّر لأجل ذلك طاقة بحث ذات مستوى معين، وهي محل احتفاء أبله لدى كثير من العرب اليوم، لاحظ مثل هذا النمط من التقديم، الذي يرِد أغلب الأحيان في سياق الاحتفاء بفيلسوف مريض نفسيًا، يأتي دومًا متسقًا مع التغافل عن الإنتاج الهائل للحفر التاريخي الذي نجده في مختلف التأليفات التراثية.
الحفر التيمي وشروط إنتاج المفهوم
دخول الشذوذ إلى الوسط العربي المبكّر، مثلًا، لم يكن ابن تيمية يتناوله وفق التأريخ التقليدي، الذي يروي تسلسل الأحداث من قبيل “وفي عام كذا، ظهر الأمر في بلاد المسلمين”، ففضلًا عن بحث المعنى، تجد ابن تيمية يحفر في الشروط التاريخية لإنتاجه وتجسُّده بقصد توضيح أسس إنتاجه، وهذا تلحظه في أبحاثه في تاريخ علم الكلام.

فخلافا لمثل كتاب المقالات لأبي الحسن، والذي كان يسرد المقالات، من غير بحث في التاريخ، تجد لابن تيمية عبارات من قبيل مساهمة ظرف الترجمة، في إنتاج معنى إغريقي معين، اكتسب سريعا دلالة شرعية، كان من شأنها تحويل مفهوم لفظ أتى في القرآن إلى مفهوم ثان.
الأسس المادية لإنتاج المفهوم لدى ابن تيمية
فالظرف من حيث كونه شرط، يربط بينه وبين تحول المفاهيم اللاهوتية في البيئة الإسلامية رابط يمكن أن تجرّد منه قوانين، تلحظ جريانها مع تغير عين الفلسفة الإغريقية، إلى فلسفة أخرى، فلم يكن ابن تيمية يشرح الشروط التاريخية لإنتاج العقائد المتأثرة بعين تلك الفلسفات التي ردّ عليها وفقط، وإنما كان يقدم -على وجه الدقة-: الأسس المادية لإنتاج المعنى.
وإذا ما أجريتَ قالب المنهج التاريخي الذي عمد إليه ابن تيمية على فلسفات وافدة، كالنسوية مثلًا، ستجد أن شرط إنتاج معنى جديد لمثل لفظ القوامة، يجري بنفس شروط إنتاج تلك المعاني اللاهوتية التي اتّخذها مثالًا. فمنهج الحفر، لم يكن عرضيًا لديه، كما لم يكن على مستوى عقديّ وفقط.

بل كان ابن تيمية يتناول أي حادثة وأي مفهوم بنفس ما يمكن أن يسمى فلسفة التاريخ خاصته. ولذا فإن تناوله لشروط إنتاج مفاهيم جنسانية جديدة كالشذوذ في البيئة الإسلامية العربية، كان واضحًا بالنسبة له أنه قد أتى بعد وفود قسم من الموالي، ككثير من جهّال التّرك حينها. بل كان يبحث حتى عن شروط إعادة إنتاج المعنى الشرعي عبر (التأويل) كحتمية نشوء مفهوم تبعا لتوفر شروط ذلك، فالشرط التاريخي هنا: وقوع فتح، ثم توفيد قوم من الترك كموالي.
“وكذلك كثير من جهال الترك وغيرهم قد يملك من الذكران من يحبهم ويستمتع بهم وقد يتأول بعضهم على ذلك ﴿إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم﴾”1
العجم كشرط لإنتاج مفهوم جنساني حادث لدى ابن تيمية
فمثل هذا الطرح، يمثل بحثًا في مناطق غير مفكر فيها كانت هي المساهم الركيز في إعادة إنتاج مفهوم جنساني معين؛ منطقة الشرط والظرف التاريخي. إن وقوع فتح لقطر ما، كان من شأنه أن يساهم في وفود أهل ذلك القطر إلى بيئة المسلمين، بما يقتضي نشوء احتكاك ثقافي معين، يعمل اجتماعيًا على نشوء ألفاظ ورموز تكرّس انحيازًا من هؤلاء القوم إلى جعل مفهوم (أيمانكم) شاملًا لمفهوم (الشذوذ)، بذا، يقدم ابن تيمية الشرط المادي لانتاج هذا المفهوم.
فمن كان يسأله عن جواب شبهة من يتأول قوله ﴿ولعبد مؤمن خير من مشرك﴾ لإباحة ذلك الفعل، لم يكن أصالة يدري عن شرط إنتاج هذا المفهوم الذي طُرِحَ حول الآية، بل كان يقدم تاريخًا مفكّرا فيه؛ وجود شخص يدعي مفهومًا للآية يقضي بإباحة ذلك السلوك. بخلاف الذي قدمه ابن تيمية هنا، إنه بحث في الشرط الذي أنتج ذلك المفهوم ابتداء، وقدم مقاربة في أسس إنتاجه.
اترك تعليقاً