أمروها كما جاءت بلا كيف

د

الإبانة لإبن بطة

كثيرًا ما يقول الحنابلة الجدد وغيرهم بناء على مثل الأثر المروي عن مالك في كتب الحنابلة “وأحاديث الصفات نمرها كما جاءت بلا كيف” 1، أن السلف لم يثبتوا للصفات كيفًا ولا معنى، وهذا غلط، فإن قول مالك عن أحاديث الصفات “نمرها كما جاءت”، قيل أيضا في غير أحاديث الصفات، وهو مثل قول علي بن المديني “وهذه الأحاديث التي ‌جاءت: ثلاث من كن فيه فهو منافق، ‌جاءت على التغليظ، نرويها كما ‌جاءت، ولا نفسرها” 2 فليس ذلك مخصوصا بأحاديث الصفات، مع أن ألفاظ هذا الحديث -كلفظ النفاق- معلوم المعنى.

وأما [تفسير] ذي الأحاديث، فقد جاء عن أحمد “ومثل: سباب ‌المسلم ‌فسوق وقتاله كفر، ومثل: من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، ومثل: كفر بالله تبرؤ من نسب، وإن دق، ونحوه من الأحاديث مما قد صح وحفظ فإنا نسلم له وإن لم يعلم تفسيرها، ولا يتكلم فيه ولا يجادل فيه ولا تفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت، ولا نردها إلا بأحق منها” 3 فقوله “ولا تُفسَّر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت” نظير قول ابن بطة في آيات الصفات:

“ولا يُعمل لها التفاسير إلا ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رجل من علماء الأمة ممن قوله شفاء وحجة مثل أحاديث الصفات والرؤية” 4 فليس مقالهم نمرها كما جاءت بلا تفسير، مخصوص بأحاديث وآيات الصفات، وليس المراد منه عند ذكره في آيات الصفات عدم إدراك المعنى، فابن بطة لما تعرض لحديث النبي “ما أذن الله لشيء كأذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به” قال: “معنى ما أذن: يريد ما استمع الله، والأَذَن ها هنا الاستماع” 5 فعرف المعنى وفسر الصفة.

image 2024 05 25 021622168 1
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة

ويشتهر لدى الحنابلة الجدد وبعض الأشعرية عند ذكر عبارة “نمرها كما جاءت” تفسيرها بعبارة “أي بلا معنى”، فهذا تكلف وخطأ، وبالقدر نفسه يصح أن يقال نمرها كما جاءت بمعنى وتفسير صحيح، وهذا ما يشهد له قول أحمد السابق “ولا تفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت” وقول ابن بطة السابق “ولا يُعمل لها التفاسير إلا ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رجل من علماء الأمة”، أما التفسير المنهي عنه فهو ما ذكره البربهاري في قوله “ولا تُفسر شيئا من هذا بهواك… فمن فسر شيئا من هذا بهواه ورده فهو جهمي” 6

ولذا قال الترمذي في السنن “وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة” 7 فالسلف يقرون بأن لها تفسيرًا صحيحا، ولها معنى، وهي تمر كما جاءت بمعنى صحيح وتفسير فسره أهل العلم، وأما النهي عن التفسير فإما يكون نهيا عن التفسير بهوى كما ذكر البربهاري، أو عن تفسير مناسب لباب رواية ذي الكلمة كأن تروى في باب الرد على الجهمية فينهى عن تفاسيرهم لأحاديث الصفات، أو في باب الرد على المرجئة فينهى عن تفاسيرهم لأحاديث الوعيد. فليس المراد: النهي عن مطلق التفسير، أو عدم إدراك المعنى، ولا يظن هذا إلا من لم يدرس كتب القوم.

image 2024 05 25 022456469
سنن الترمذي

أما عن قوله “بلا كيف”، فهذا يكون من باب النهي عن المعارضة، مثل ما قاله الشافعي: “وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيه إلا التسليم، فقولك وقول غيرك فيه: لم ‌وكيف، ‌خطأ، قال بعض من حضره: نعم، قلت -أي الشافعي-: فدع (كيف) إذا قررت أنها ‌خطأ في موضع، فلا تضعها الموضع الذي هي فيه ‌خطأ. قال بعض من حضره: ‌وكيف كانت ‌خطأ؟ قلت -أي الشافعي-: إن الله تعبد خلقه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، بما شاء لا معقب لحكمه، فعلى الناس اتباع ما أمروا به، وليس لهم فيه إلا التسليم، و(كيف) إنما تكون في قول الآدميين الذين يكون قولهم تبعا لا متبوعا، ولو جاز في القول اللازم (كيف) حتى يحمل على قياس أو فطنة عقل، لم يكن للقول غاية ينتهي إليها” 8

وهذا عام، والمعنى الذي يقصده الشافعي بعدم معارضة الحديث بـ (كيف)، يثبته أبو الزناد بن ذكوان في قوله: “ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي من ذلك أن قطع أصابع اليد مثل قطع اليد من المنكب أيُّ ذلك أصيب ففيه سنة آلاف فهل وجد المسلمون بدا من لزوم هذا وأشباهه مما أحكمته السنة والتمسك به والتسليم له” 9 فإن كلام الشافعي وكلام أبي الزناد في سياق واحد، وهو النهي عن معارضة الحديث بـ (كيف!) ولذا قال الشافعي “ولو جاز في القول اللازم (كيف) حتى يحمل على قياس أو فطنة عقل، لم يكن للقول غاية ينتهي إليها”، هذا مع أن الذي نهاه الشافعي عن قول (كيف) كان يقول “فـ (كيف) نرد صاعا من تمر”، والمحل الذي كان ينهى فيه أبو الزناد عن المعارضة هو ما يتعلق بالفقه، فكله معلوم المعنى، وفعله يكون على كيفية، فعلم أن النهي عن قول (لم وكيف) ليس مختصا بآيات الصفات، وليس المراد منه عدم إدراك المعنى أو نفي كيفية للصفة، بل النهي عن المعارضة بالسؤال (كيف!)

image 2024 05 25 022140419 1
الإبانة الكبرى لابن بطة

والنهي عن معارضة الحديث بـ (لمَ وكيف)، فيما عُلم معناه هنا، يرد في لسان السلف والحنابلة في آيات وأحاديث الصفات، ومنه: قول البربهاري “واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم فكروا في الرب، فأدخلوا ‌لم ‌وكيف، وتركوا الأثر” 10 فالمراد التحذير عن معارضة ما ثبت في الحديث بقول (وكيف يُعقل، وكيف يفعل، وكيف يتصف)، لهذا قال ابن بطة: “لِمَ ‌وكيف وليت ولولا، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه، ومن الجاهل على العالم، معارضة من المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى وسبيل أهل التقوى ومذهب من شرح الله صدره للإسلام” 11 فليس قولهم (تمر كما جاءت بلا كيف) يراد به أن لا كيف لصفة الله، أو لا معنى يُعرف، وإنما يراد به: لا يُعترض عليها بـ (كيف)

المراجع:

  1. الجامع في عقائد وسائل أهل السنة والأثر، حوى ستين عقيدة من عقائد أهل السنة، جمعه واعتنى به: أبو عبد الله عادل آل حمدان، دار المنهج الأول للنشر، الطبعة الثانية ١٤٣٧ه‍- ٢٠١٦م، ج١، ص١٨٠. ↩︎
  2. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، ج١، ص١٩٠.. ↩︎
  3. المرجع السابق نفسه، ج١، ص١٨٢. ↩︎
  4. الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، عبيد الله بن بطة العكبري ٣٨٧ هجري، تحقيق عادل آل حمدان، الطبعة الرابعة ١٤٣٥ هجري، دار الحجاز، ص١٥٨. ↩︎
  5. المرجع السابق نفسه، ج٣، ص١٢٣. ↩︎
  6. شرح السنة، البربهاري، ص٥٠، بواسطة: الاحتجاج بالآثار السلفية لعادل آل حمدان، ص٢٨٥. ↩︎
  7. سنن الترمذي، ج٣، ص٥١، بواسطة: الاحتجاج بالآثار السلفية لعادل آل حمدان، ص٢٨٤. ↩︎
  8. اختلاف الحديث، ابن قتيبة، ج٨، ص٦٦٦. ↩︎
  9. الجامع في عقائد وسائل أهل السنة والأثر، حوى ستين عقيدة من عقائد أهل السنة، جمعه واعتنى به: أبو عبد الله عادل آل حمدان، مرجع سبق ذكره، ج١، ص٨٦. ↩︎
  10. شرح السنة، للبربهاري، ص٩٦. ↩︎
  11. الإبانة الكبرى، ابن بطة، مرجع سبق ذكره، ج٤، ص٣١٦. ↩︎

للإشتراك في النشرة البريدية

نشرة البريد

مدونة للمباحثة والنقد ومراجعة الكتب، أوفر خدمات SEO، وخدمات التدقيق اللغوي والتلخيص والتحرير

رد واحد على “أمروها كما جاءت بلا كيف”

  1. الصورة الرمزية لـ جواد

    استاذ الحبیب هل تأذن برتجمة مقالاتك؟

اترك رداً على جواد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *