كان هناك عقلية سياسية وقع انتشارها بكثرة في الأوساط تحت مسمى التوحيد، حتى أنك ترى أجيالا تنشأ على أنه من الواجب ألا فارق لدى المسلم بين بلد مسلم، وبلد مسلم آخر، بينهما حدود جغرافية بالمرة، وإلا كان هذا خارمًا لركن الولاء والبراء في مسمى التوحيد.
الخلفية الإخوانية، وإعادة الإنتاج
هذه العقلية هي نتاج تكريس فكرة توحيد الحاكمية حسب الخلفية الإخوانية المتقدمة، فسيد قطب كان يفكر بعقلية إعادة إنتاج التاريخ الإسلامي الأول، ولكي يتسق الطرح، لا بد أن يرى في الحدود الجغرافية معوقًا لفكرة الخلافة الكونية، التي تعني أن الأرض سيحكمها رجل واحد وفق نظام الخلافة، ويكون هو المسمى بالخليفة.
سيد قطب ومساهماته في نظرة الإسلاميين للحدود
وحسب هذا السيناريو، إذا كان هنالك حدود جغرافية بين الأقطار المسلمة، فهذا يعبر لديه عن تشتيت لهذا المشروع، فسيجري لاحقا استقباح وضع فوارق ضمن مفاهيم الوطنية والجنسية بين دولة ودولة، فترى أشخاصا يقع التهديد الخارجي لبلدانهم وأوطانهم، ودوما ما يرددون تلك الأسطوانة القائلة برفض فكرة الحدود على أنها ظاهرة حداثية ليست من جغرافيا المسلمين في شيء، وهذا غلط.
تهافت نظرية الخلافة الكونية
فكرة الخلافة الكونية هي أمر مستحيل جغرافيا، يدرك هذا أدنى من درس بحثا جيوسياسيا، ودون التطرق لبدعية القول بها، يكفي تصور أن مُلك الأرض أجمع لم يتيسر إلا لأربع، آخرهم دعا الله قائلا (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي)، وهو سليمان عليه السلام، لكن أين يقع التقاطع بين التاريخ السياسي للإسلام، وبين وجود الحدود بين البلدان المسلمة؟
في مفهوم الوطنية
الذي يريد أن يلغي فكرة وجود حدود دولية، عليه أن يطرح سذاجة النقودات الخطابية للوطنية، إذ الوطنية باختصار تعبر عن حب الأهل والعشيرة والأرض والمسكن، مما هو مغروز في كل إنسان، مسلما كان أو غير مسلم. بل مثل هذا عليه أن يجازف بنقد جل التاريخ الإسلامي، معبرًا عن فكرة سيد قطب، بأنها منسحبة بعين الإنكار إلى التوزيع الجغرافي في الحكم منذ القرن الأول.
بداية بالحدود التي كانت بين دولة علي، وبين دولة معاوية، رضي الله عنهما، فضلا عن مثل ماكان بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، حين كان الحجاز ونحوه من بلدان المسلمين يدين لابن الزبير، بخلاف غيرها من الأقطار التي كانت تدين لعبد الملك.

بين علي ومعاوية، وابن الزبير وعبد الملك
حتى أن الحسن البصري كان مبايعًا لعبد الملك بن مروان، داخلا في دولته ضمن حدود جغرافية، تفصلها عن دولة ابن الزبير، وكان مثل ابن عبد البر وابن كثير والذهبي يعدون ابن الزبير حاكمًا لم يقدح في شرعيته أن بين دولته وبين دولة ابن مروان حدود، حيث انحصرت عاصمة ابن الزبير في الحجاز، وبايعه أهل اليمن والكوفة، وكان عبد الله ابن عمر ممن بايعه، وانحصرت عاصمة الثاني في دمشق، وبايعته ودانت بملكه مثل دمشق والأردن، ثم وقع ما يقع من صراعات سياسية بين مختلف الدول، بما لم يقدح في شرعية دولة دون أخرى.
بعد تفكك العباسيين
بل حتى بعد تفكك الدولة العباسية، أو في آخر مراحلها، جرى استقلال كثير من الدول عنها، وأسست كل دولة منهم ملكًا منفصلا عن ملك الثاني، ولم تطالب دولة مستقلة واحدة حتى يتكوين خلافة، لتعيد أمجاد العباسيين، ولا ينسحب على أي منها الحكم بالجاهلية، لعلة انحصارها في حدود جغرافية معينة، تفصلها عن غيرها، بل حتى قد تؤدي بها لصراع سياسي وبري مع غيرها.

فتوزعت ذي الدول على مختلف الأقطار، مثل دولة بهدينان، التي حافظت على استقلالها مع وجود صراع بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وكانت تبسط نفوذها على الجغرافيا المنحصرة في أجزاء من أربيل ونينوى، ولم تتعرض لتوسع الدولة العثمانية ليشملها.
ومثل ذلك ما كان مع إمارة الجعليين، الذين استقلوا بالحكم في شمال السودان، بل حتى أن حكم المماليك، أو ما يعرف بفترة الخلافة العباسية الثانية، كان في فترته دول مستقلة في جغرافيا متنوعة مثل شمال إفريقيا والهند والأندلس، ومثل هذا في التاريخ الجيوسياسي للمسلمين لا يمكن حصره في منشور أو مقال.

ومع هذا، لا يزال من يأتيك اليوم بالرفض القاطع لفكرة وجود دول مسلمة مستقلة سياسيا وحدوديا، بما يفرض على الأولى أن تحمي حدودها الجغرافية إذا تعرضت بتهديد من الثانية. فيُصوِّرُ لك أن التاريخ السياسي للإسلام، كان حافلًا بنظم الحكم الجاهلية، وبقي هذا غائبًا، حتى انكشف لبعض الأدباء الذين يطرحون تصوراتهم السياسية المستوحاة من الخيال، لتكون فارقة بين مسمى الإيمان والجاهلية.
اترك رداً على عبد الله الصنهاجي إلغاء الرد