ألف أبو يعرب المرزوقي كتابًا بعنوان (في دلالة طوفان الأقصى بداية هزيمة الأعداء) والكتاب منطوٍ على حشو كثير، هو أقرب لتجميد بعض الأخبار المضللة، وتحويل أحداث تاريخيَّة ذات أبعاد معقَّدة وتبسيطها إلى دروس تجريديَّة، بلغة أشبه لتلك التي كان يحاول جمال الدين الأفغاني الكتابة بها، في قضايا تتجاوزه، وهكذا يظهر أبو يعرب المرزوقي، وكأنه يحاول فرض قالَب مثاليٍّ بشكل مسبق على الأحداث.
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 2 كتاب أبو يعرب المرزوقي كتابًا بعنوان في دلالة طوفان الأقصى بداية هزيمة الأعداء](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-8.png)
والكاتب إن لم يكن مهتمًا بالحقيقة، فهو مهتم بالدعاية، والدعاية في المجال السياسي إنما وضع فنُّها لتضليل الخصم، لا لتضليل أنفسنا، وحجب الحقيقة عنها، بدعوى منع النقد إلى حين انجلاء الغمَّة، فمن يكبح مثل هذه الأقلام التي تشارك العدو في تضليلنا عن الحقائق غير النَّقد؟ وهذا ما فتح الباب لاختبار الآراء السياسيَّة لأبي يعرب المرزوقي، وبحث مدى الوثوقيَّة بمعلوماته، وآراءه.
عند تحويل الحدث السِّياسي إلى معجزة إسلاميَّة
يطرح المرزوقي في أول كتابه “أن تنتصر أفغانستان، على السوفييت ثم على الأمريكان، فمن معجزات الإسلام” [ص2] إن الوعي السياسي الذي ينسب نصرًا شاركت فيه عوامل عدة، باختزالها في العامل الديني، يندرج ضمن الوعي ضال، فماذا لو استعملت القنوات التابعة للكيان مثل هذه اللغة فيما يتعلق بفشل 3 دول عربية في حرب 67؟ هل يضحى ذلك معجزة يهوديَّة؟ وإلى أي ديانة ينسب انتصار السوفييت على الألمان بعد وصول الأخيرة إلى العاصمة موسكو؟ من معجزات الإلحاد؟
ومن ضمن المعجزات التي لا تزال قابعة في مخيِّلة المرزوقي: “وأن تأتي ثورة الربيع على الحدود التي فرضها سايكس بيكو” [ص2] عفوًا، ما طبيعة (الاتيان) التي تقصد؟ الثورة التونسية، شعاراتها كانت حول الحرية والكرامة، والمعيشة، لا حول حدود الدولة القطريَّة والسعي نحو خلافة كونيَّة، ودول مثل سوريا، واليمن، وليبيا، لم تتجاوز حدود (سايكس بيكو) بقدر ما قُسِّمَت داخليًا بشكل أعقد، لم يخطر على بال كل من سايكس وبيكو، ولا تزال كل من ذي الدول مقسَّمة إلى اليوم داخليًا، وخاضعة لتدخُّلات أجنبيَّة عدَّة، تكسر اقتصاديَّاتها، وتستنزف أرواح أبنائها.
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 3 خريطة سايكس بيكو](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-9.png)
بالمناسبة، الخريطة التي أفرزت عن معاهدة سايكس بيكو (1916م)، ليس لها أي وجود واقعي، بمعنى؛ لا توجد أي دولة اليوم، تخضع حدودها للخريطة التي رسمها الطَّرفان، الفرنسي والبريطاني، وكل دولة عربية كانت لها خاصيَّة ظرفيَّة، ودول الشَّمال الأفريقي مثلًا، لم يتكلم عنها سايكس وبيكو لا من قريب ولا من بعيد، ولا مصر، ولا السعوديَّة.
وللتَّدليل على التضليل الذي ينهجه المرزوقي، يجدر بنا أن نشير لمسألة غير معروفة لدى كثير ممن يلوك كلمة (سايكس بيكو) ويطبِّل بكل تفانٍ لما يسميه (الخلافة العثمانية). أليست سايكس بيكو بتعبير المرزوقي تميكنًا للاستعمار، من تقسيم الأمة الواحدة جغرافيًا؟
في التَّقسيم العثماني للأراضي العربيَّة، ما يتجاهله أبو يعرب المرزوقي
عندما يتعلق الأمر بمن يهوى، يتجاوز مرحلة الغزل، إلى مرحلة الغيرة، التقدم بخطوتين إلى الأمام، معتبرًا أن “من يعادي العثمانيين من العرب اكثر اجراما” [ص67] فهلًّا أتحف قرَّاءه بموافقة بريطانيا والعثمانيين في مارس 1914 على اقتسام شبه الجزيرة العربية وفق المعاهدة (الأنجلوعثمانية) بين (حقي باشا) مفوض الباب العالي، و(غراي) المفوض البريطاني؟
إذ عملت الاتفقايَّة على تقسيم المناطق بخط مستقيم من قطر إلى حدود محمية عدن واليمن، لتصبح المناطق شمال الخط تحت الحكم العثماني بما في ذلك نجد والأحساء، وجنوبه تحت السيطرة البريطانية، وتضمين بند خاص بـ(لجنة تخطيط الحدود)، وجرى الاتفاق على حدود الحكم الذاتي للكويت، وتخلي العثمانيين عن قطر والبحرين لصالح بريطانيا [راجع تاريخ الأقطار العربية] وماذا عن نظام (الامتيازات) العثماني، الذي سلّم مفاتيح العالم العربي للمستعمرين؟
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 4 خريطة المعاهدة الأنجلوعثمانيَّة لتقسيم العثمانية للأراضي العربيَّة بينهم وبين بريطانيا](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-10.png)
لكن أبا يعرب المرزوقي له رأي آخر، يريد أن يتكلَّم عن “استحماق العرب الذين ما يزالون الى الآن يعادون الخلافة العثمانية” [ص7] ويتكلم عن معجزة أخرى بقوله “وأن تفشل العلمنة في تركيا بعد ما يقرب من قرن لفرضها” [ص2]
مع أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يقول بلسانه “الأفراد لا يكونون علمانيين، الدولة هي التي تكون علمانيَّة، هل هذا مخالف للإسلام؟ ليسَ مخالفًا للإسلام” [لقاء لأردوغان على العربية سنة 2017، بعنوان: أردوغان ينفي التعارض بين العلمانية والإسلام] ولكنها حالة المستثقف العربي الحالي، أن يكون ملكيًا أكثر من الملك، هو أن يكون المرزوقي.
من نماذج الوهم السِّياسي لدى أبي يعرب المرزوقي
يكتب المرزوقي “أعتقد أن أهم ثمرة لطوفان القدس هي جبر الكسر بين ثورة الأمة الشاملة الساعية للتحرير والاستئناف المشروط بعودتها إلى ما كانت عليه قبل القرن الماضي، حيث كانت رمزًا لدار الإسلام الواحدة ورمزًا لتاريخ الإسلام الواحد، وذلك في مواجهة ما أرادته خطة سايكس بيكو ووعد بلفور من تكوين المحميات وتمكين الأقليات من الاستبداد” [ص13]
الادِّعاء بأن الأمة تسعى للعودة إلى ما كانت عليه قبل القرن الماضي، هو وهم، فالادِّعاء يفترض وجود نموذج موحَّد للعالم الإسلامي قبل القرن العشرين، الأمر الذي يثبت التحقيق التاريخي ضحالته، وتبقى ذي الرؤى الرومانسيَّة ملهمة بعض الشيء لمن يعجب بأدبيَّات اليسار الصبياني، مع أن تجربة حماس، ليست أمميَّة، ولا برنامجها كذلك، وهي في الأساس خاضعة لمفاهيم الدولة الوطنية القطرية الحدوديَّة، وتعبئة الحركة أكبر من طاقتها، يسمى تضليلًا.
ومن ناحية ما يسميه بتمكين الأقليات من الاستبداد، في نفس النص الذي يمجِّد فيه الوجود العثماني في العالم العربي، لا يطرح تساؤلًا حول طبيعة الحكم العثماني؟ لماذا يسمى عثمانيًا أصلا؟ وهو الحكم الذي يشرح أن السلطة خاضعة لاستداد أقليَّة، تتمثل في قبيلة عثمان! بل يصل الاستبداد إلى مرحلة (قتل) الذكور من أبناء الآل كيلا تثار فوضى وأطماع في الحكم لاحقًا، وبرر مرعي الكرمي فتاوى من سمح لهم بذلك، بأنه يجوز قتل ثلث الرعية، ليحيى ثلثَيها، وقيست هذه على تلك، وكأن المرزوقي يشرح لنا أن الحكم العثماني، كان قمَّة في الديمقراطية والتداول على السلطة، وأبعد ما يكون عن الاستبداد.
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 5 من كلام مرعي الكرمي: "ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفًا من إثارة الفتن، وفساد ملكهم، واختلاف الكلمة، وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحدٌ فيما أعلم وهو وإن كان أمرًا ينفر منه الطبع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير، ومع ذلك فلم يظهر لي جواز ذلك على سبيل الإطلاق، لأنهم أطفال لا ذنب لهم أصلًا، وكون يحصل منهم بغي وإثارة فتن فيما بعد فهو أمر غير محقق وترك القتل في مثل ذلك أليق، ولعل من أفتى من العلماء بالجواز واستحل قتلهم وأجاز محتجًا بجواز قتل الثلث لإصلاح الثلثين نزّل الظن منزلة اليقين، على ما فيه من بُعد ومَين، ويحتمل أن يقال: يجوز قتلهم سياسة لا شريعة، وباب السياسة أوسع من الشرع"](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-11.png)
وعند الكلام حول (توحيد شامل) في العالم الإسلامي، يجب أن نطرح جانبًا اللغة الخشبيَّة، أساسًا أنت أمام معضلات اقتصاديَّة، الهيكل الاقتصادي العربي متناقض لأقصى حد، مثلًا، تركَّزت الثروة في الأقطار التي تعتمد على النفط، كعائد أساسي، مثل دول الخليج، بينما انكفأت أقطار عربية أخرى على عوائد السياحة، والزراعة، وأسهم هذا تغييرات جذرية في التركيبات الاجتماعيَّة لهذه الدول، وعلى المستوى الثقافي فإن المال الأمريكي تلحقه ثقافة أمريكية، والسائح الإيطالي، تلحقه ثقافة إيطاليَّة.
وهكذا نتجت فجوات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة هائلة، وبات تكوين بنوك مشتركة، أمرًا بالغ التعقيد، فضلاً عن مسائل التوحيد الشامل، قبل إنهاء المشروع النظري تجاه هذه العوامل. ودع عنك فجوات التكنلوجيا، والتعليم، والتجارة، والتصنيع، كل هذا يتجاوزه المرزوقي، ليقطع بشكل غير علمي، أن طوفان الأقصى، هو ما سيعيد توحيد الأمة في شكل الدولة الواحدة، عفوًا، السنوار نفسه يرسل برقيَّات تهنئة قبل أيام لرؤساء فازوا بالانتخابات في العالم العربي، فعن أيّ استئناف خيالي تتحدَّث؟
في التيهان المعرفي لدى أبي يعرب المرزوقي
ويواصل المرزوقي، بأن الإمبراطورية الرومانية أسقطها “مغول الغرب” [ص17] مع أن الذين أسقطوها هم الجرمان، ليس لهم أي متعلَّق عرقي بالمغول. ويرى أن “انكسار الجيش لا يقاس بقصور عتاده فحسب، بل بروح جنوده. وإذن، فلا بد من مقومي الإنسان الحر، أي إرادة جهاد وحكمة اجتهاد، وهما يعلمان أن السلاح أداة لا تفعل من دون وعي الإنسان بمنزلة حريته في قيمة وجوده ومعناه. وفقدان الأرض ليس بفقدان الثروة التي تمكن من إعادة بناء المقاومة فحسب، بل لا بد من مقومي الإيمان بقدسية الأوطان عند الإنسان الذي يعدها جزءًا من كرامته، لأن الكرامة في حماية العرين الذي هو شرط الحرية الفعلية” [ص18]
هنا، مصطلحات من قبيل ” إرادة جهاد وحكمة اجتهاد” تفتقر إلى تحديد واضح، هي أقرب ما يكون لتكرار الشعار العام، والصحيح أنها لا تقدِّم أي رؤية سياسيَّة واضحة، لاعتماد الغموض في التحليل السِّياسي، كما أن الحديث عن الكرامة، وقدسيَّة الأوطان، ليس مما يضيف جديدًا في النقاش. هي عبارات للاستعمال الرومانسي تجاه الأرض، لا للبحث في الدلالة الاستراتيجيَّة لمشروع سياسي، إن المرزوقي، يتعمَّد التركيز على مسائل عاطفيَّة، وشاعريَّة فحسب، فضلًا عن التضخم في الأسلوب المفاهيمي، واستعمال مفرط لعبارات رنَّانة، (الكرامة في حماية العرين)، أي تحليل سياسي يختفي وراء مثل ذي التقعُّرات؟
التحليل السياسي يفترض أن يعتمد على تحليل الحدث بلغة واضحة، ومباشرة، توضيح الأمثلة التاريخيَّة، وتقديم الأرقام، والإحصائيات، لا الاختفاء حول عبارات ليس لها أي متعلَّق بالحدث. ومثل ذي الكتابات لو يطلِّع عليها السنوار نفسه، سيسخر من قائلها، مفاهيم، وعبارات، ذات متعلَّق إنشائي محض، لم تخطر على بال أي شخص في حماس.
أما انكسار روح الجيش، وعلو معنوياته، فتضخم مثل هذا الموضوع بشكل متكرر كما في كتاب المرزوقي، لا يعطي أي وجاهة سياسيَّة أو تاريخيَّة، الجيوش تكسب نتيجة قوَّتها الماديَّة، ومتانة تنظيمها، وخططها الاستراتيجيَّة، لا بناء على روحها المعنويَّة.
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 6 image 13](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-13.png)
لذلك، كانت الروح المعنويَّة للألمان خلال الحرب العالمية الثانيَّة أعلى ارتفاعًا، بخلاف السوفييت، الذين انتهكت عاصمتهم، ومع ذلك، انتصار السوفييت كان عائدًا إلى الدعم المادي، والاقتصادي، تدخُّل دبابات شيرمان الأمريكيَّة، وطائرات سبيتفاير البريطانيَّة، مع سفول معنويات السوفييت عند بداية الحرب.
ونتيجة الخطأ الاستراتيجي، لم يكسب المسلمون معركة أحد، رغم علوّ معنويَّاتهم أمام الأعداء. فالدندنة حول رفعة المعنويَّات، وجعلها أمرًا مدللًا على قضايا النصر ونحوها، لا يعدو أن يكون مخدرًا.
يطرح المرزوقي “فما هي بنية كيان الإنسان في علاقته بالطبيعة التي تعد مصدر قيامه العضوي؟ إنها تتألف من العناصر التالية: الهواء، والماء، والغذاء، والدواء، والمناعة العضوية التي تعد ثمرة لهذه العناصر جميعًا ومصدرًا لها. هذا هو مفهوم الرزق المادي أو الثروة.
أما بنية كيان الإنسان الروحي في علاقته بالتاريخ، الذي يمثل مصدر قيامه الروحي، فهي إرادته الحرة ورؤيته الوجودية التي تتجلى في الوعي بآيات الأنفس وآيات الآفاق، إضافةً إلى ذوق يربطه بهما، وعلم يسعى به لفهمهما والتعامل معهما، وقدرة تمكنه من تحقيق الشروط التي تدعم تحقيق حاجاته وكمالاته. وهذا هو مفهوم الرزق الروحي أو التراث.
وإذا كانت بنية الكيان العضوي تتشكل من التلقي من الطبيعة، فإن بنية الكيان الروحي ترتبط بشروط الوعي الذي يجعل هذا التلقي قادرًا على تحقيق شروط حرية الإرادة ورجاحة الحكمة، بما يمكنه من تحديد الغايات وابتكار الوسائل.” [ص18]
الكلام أعلاه يوضِّح حالة من التجريد المبالغ، كيف للحديث عن الإرادة الحرَّة، والرؤية الوجوديَّة، بعبارات رنَّانة، أن تنطبق في سياق أزمات ملموسة مثل ما حصل بعد السابع من أكتوبر؟ الحدث السِّياسي، بحاجة إلى قراءة واضحة للأسباب، الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، لا الانحصار في تجريدات فلسفيَّة حول الإنسان والطبيعة والتاريخ، حتى نظهر بملمح فلسفي، ثم نستدعى إلى بلاتوهات، لنُسأَل عن معنى كل هذا الغموض فنختصره في عبارات طنانة كانت تدور أيام الربيع العربي، هكذا يضحى العمل النقدي دوغمائيًا.
وهكذا يبقى الطرح كله دائرا حول (الرزق المادي) و(الرزق الروحي) وضرورتهما لحياة الشعوب بكرامة، وأنفة، لتشعر أنك تقرأ في قصيدة لمحمود درويش، لا تحليلًا لحرب راح ضحيتها ما يفوق أربعين ألف إنسان. ثم يقول المرزوقي “فما حققه شباب غزة فاق قدرة جميع جيوش العرب مجتمعة. لقد أنهوا وجود إسرائيل نهائيًا” [ص29] تخيل! مستوى المبالغة غير المسؤولة في تقدير الأحداث، والتعامل معها بذهنية رغبويَّة امتنانيَّة، فكون إسرائيل قد انتهى وجودها بشكل كامل، بناء على يوم 7 أكتوبر! أمر يمتنع أي إنسان على تصديقه.
يقول المرزوقي “أما نظام العمل السياسي أو الاجتهاد في حفظه، فيعتمد على التواصل الصادق والتبادل العادل، بهدف الحفاظ على قوة الجماعة” [ص39] هذه واحدة من مصاديق التيهان المعرفي لدى المرزوقي، أن تعتبر حفظ النظام السيَّاسي معتمدًا على (التواصل الصادق، والتبادل العادل)، فمثل هذا يتجاهل واقع السِّياسة الدولية التي تقوم على القوة، والمصالح، لا على العدل والصدق، السياسة الدولية بما تشمل من دول تحافظ على وجودها، تعتمد على الهيمنة، على القوة.
![مقدِّمات في النَّقد [1] : أبو يعرب المرزوقي. 7 image 14](https://bassembech.com/wp-content/uploads/2024/09/image-14.png)
وتخيل أن أقوى نظامين عالميين خلال الحرب الباردة، كانا يعتمدان على سياسة (الاحتواء) لا (التبادل العادل)، مثل دعم أمريكا لأنظمة إستبداديَّة مثل الشاه في إيران، لضمان مصالحها، مصالحها، لاحظ، حيث تقدَّم المصلحة، بدل التواصل الصادق، خلافًا لما يطرح المرزوقي، ولم يكن التواصل الصادق، والتبادل العادل، من أدوات حفظ أنظمة العمل السياسي فيها بهذا المنطق.
فكيف بالسِّياسة الأمريكيَّة في الشرق الأوسط؟ دعم الأنظمة التي يسمِّيها المرزوقي (إستبداديَّة) مقابل تأمين المصالح الاقتصاديَّة (النفط)، كدعم صدَّام ضد إيران الخميني، ثم دعم مصالحها مرة ثانية ضدَّ صدَّام. ومع ذا، النظام يمثِّل قوة عالميَّة، ولا يزال يحافظ على وجوده، ووجود مصالحه. ثم يقول المرزوقي “فالقوي ماديا أقدر على التهديم لكنه يصبح أعزل إذا لم يجد ما يهدم. والقوي روحيا أقدر على البناء ومن ثم فينبغي ألا ينشغل إلا بتهديم سر قوة العدو المادية بالقضم المتدرج” [ص60]
وبهذا تضحى التحليلات السياسيَّة ميتفازيقيَّة، الحلفاء في الحرب العالميَّة الثانية، لم ينتصروا بناء على قوَّة روحيَّة، أو معنويَّة، بل لتحقق قوة ماديَّة، اقتصاديَّة، وعسكريَّة، وتنظيميَّة، أي التفوق الصنَّاعي والعسكري، ولم تكن أحداث ضخمة مثل هيروشيما وناكازاكي، تخضع بحكم أنها قوة ماديَّة، لقوة معنويَّة أكبر منها. مع أنها تدل على (انحطاط معنوي) في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها حققت نصرًا سياسيًا بفعل (القوة الماديَّة).
نفس الأمر مع أواخر الحرب الباردة، لم يفشل الاتحاد السوفييتي، بسبب قوة روحيَّة معنويَّة في أمريكا، وإنما نتاج أزمات إقتصاديَّة وعسكريَّة حلَّت به. السِّياسة غير المراوغة، تهتم بالوضوخ، بوضوح أن القوَّة الماديَّة بكل أبعادها، بما فيها ما يسمى: دعم دولي، تمثيل دبلوماسي متين، خطوط إمداد ذات كفاءة عالية، أثقل من قصص الكرامة والضمير، والإنسانيَّة عند الصِّدام العسكري. وهذا هو الأمر الوحيد الذي يثبته التاريخ السِّياسي التراكمي.
خاتمة
وهكذا، عندما نتحدَّث عن ضحالة الوعي السياسي لدى المرزوقي، فإننا أمام دائرة مليئة بالمتناقضات، لرجل يفكِّر بعقلين مختلفين، يعمل كلٌّ منهما على موجة خاصَّة، كقوله أن شباب غزَّة قد أنهوا وجود إسرائيل نهائيَّا، لم تعد هولويود تقتصر على الصناعة السنمائية، وإنما اتسع بها الأمر إلى كتابات الإسلاميي، ومن دون حبكة حتى، بل يموت العدو، في أول حلقة من المسلسل! وكأن السِّياسة؛ هي أن نحسب تأملاتنا وقائع.
أما عند الكلام حول المقابلة الشعرية “إرادة جهاد، وحكمة اجتهاد”، حيث اختلاط العبارات الرنَّانة باللَّا معنى، حيث مغامرات التنمية الذاتيَّة، حيث إنزال التحليل السِّياسي منزلة الحالميَّة والتأمليَّة والآمال، حيث الإبهام بدل الوضوح، حيث التركيز على صناعة إطار شعاراتي جديد، مغلق، وغير مفهوم، بدل بحث الاقتصاديَّات، وتطوير استراتيجيَّات، وتحالفات، وخطوط إمداد.
ثم من الفكاهة بمكان، عبارات من قبيل “تهديم سر قوَّة العدو، بالقضم المتدرِّج”، القضم المتدرِّج، لاحظ، أن نترك الاقتصاد، والعلوم العسكريَّة، لنقرأ نصوص المرزوقي الروحيَّة لبناء جيوش تعتمد “القضم المتدرِّج”. وأن تجعل حفظ الدول معتمدًا على “التواصل الصادق والتبادل العادل”، يشعرنا أنَّا السياسة الدوليَّة بنظر الأخ، جلسة بين أصدقاء، دوليين، يحاولون الحفاظ على صداقاتهم وصمدقيَّتها، من خلال التواصل الصادق، لا من خلال السباق نحو التسلُّح.
ثم كيف يمكن “لقويٍّ روحيًّا أن يكون أقدر على البناء”؟ بهذا الاعتبار، أيمكن لدولٍ تعيش ضياعًا اقتصاديًّا وعسكريًّا، وإداريًّا، أن تبني مستقبلًا لمجرَّد صدق قضيَّتها الروحيَّة؟ أو لقوَّتها الرُّوحيَّة؟ ولكن الكتابة التائهة نظريًا، التي تتعلَّق بقشَّة مثاليَّات، تجد صداها دائما في سوق الكلام في عالمنا العربي.
اترك رداً على ابو يعرب المرزوقي وهذه تنبيهات آخل أن يتأملا التساذ صاحب هذا النقد الهزيل. إلغاء الرد