إن عملية النقد، هي المحور الأساسي لإذكاء أي حركة علمية رصينة، وعليه، فإن غالب الأطروحات التي تعتزم دور الريادة في عالم يسهل فيه الوفاء للرغبة في الشهرة، إن لم تكن قائمة على أساس علمي متسق ورصين، فإن عملية النقد ستمثل ضريبة لذلك الوفاء، ولن يسمح في المشهد العلمي الموضوعي بالتمعن في تلك الأطروحات بعين الرأفة ما لم تكن مشعرة برغبتها في التقدم نحو اكتساب شرعية علمية، بل إن بقاءها على التلفيق يجعل من مسؤولية المرء أن يعرضها على قلم النقد، يختبر أهلية أصحابها، ومستوى نفوذهم العلمي أمامه، ولهذا جاء كتاب باسم السلف ليوسف سمرين في نقد طرح أحد هذه النماذج؛ عبد الله بن فهد الخليفي.
المحتويات
الهروي، إمام ولكن حلولي جبري!
عند انتشار الكتاب بدأ الخليفي في صوتية بقوله (تنبيه سريع قبل أن يحذف من دلس كلامه)، ثم نقل أبيات الهروي متلعثمًا كمن لم يطلع عليها إلا حين كتابتها، لا كمن هو معتل في منطقه، فقال في آخر الأبيات (توحيده إياه توحيده، ونعتُ من ينعتُه لاحِدِ) والصواب أن يقال (لاحدُ).
وكان عنوان الصوتية (تنقل نقد ابن القيم ولا تنقل اعتذاره)، فهو يعير غيره بمصابه كما عهد منه، فليت شعري من ينقل عن الهروي إثبات الصفات، ولا ينقل غلو تجهمه في الجبر، وقوله بالحلول الخاص، ويستتر بدفاع ابن القيم عنه، مع أن كتبه بين أيدينا، ولا يحكّم دفاع ابن القيم عند تعلق الطرح بغيره؟.
يقول الخليفي في الثانية 00:46 “في صويتي نبهت أن ابن تيمية وابن القيم نفيا عنه وحدة الوجود والاتحاد، أما الحلول الخاص فأثبتوه عليه بنصوص” فمن يخادع الخليفي وقد قال ابن تيمية: “ذكر في كتابه منازل السائرين أشياء حسنة نافعة، وأشياء باطلة. ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية، ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد” 1

ابن تيمية ينسب قوله إلى حقيقة الاتحاد، ولكن الخليفي يقول ابن تيمية ينفي عنه الاتحاد، وكأن كلام ابن تيمية بمعزل عن القراء، فهو يتعدى أن يكتب باسم السلف خطلًا، فيضع على لسان ابن تيمية براءة لا يبرأ منها في حق الهروي، بل يثتها الشيخ في منهاج السنة في حقه بكل جراءة، وهو الحق، ولكن الشاملة لا تسمح بتكشف هذا، فالاتحاد مثبت في الصفحة على (صاحب منازل السائرين) من دون ذكر اسمه، فليس مثل هذا يتأتى لمن يتبضع من الشاملة بربع درهم ولم يقرأ المنهاج بطوله.
ثم قال الخليفي (أورد الباحث المتعجل نقد ابن القيم لهذه الأبيات وأخفى عن المسلمين وهذه والله فضيحة علمية، فبإمكان كل إنسان أن يراجع، أخفى عن القراء أن ابن القيم بعد أن ذم الأبيات باعتبار عاد وذكر احتمالات اعتبارية، وصرح أنه بعيد كل البعد عن وحدة الوجود والاتحاد والحلول) فهذا وصف بالعجلة، ممن ينسب غيره لفضيحة علمية، فلتقرأ بتمعن ولا تعجل على نصيبك. قال سمرين: “على أن ابن القيم، وإن سعى إلى تبرئة الهروي من وحدة الوجود في مواضع، قام بتأويل كلامه على أنه في الفناء عن الشهود، لا في وحدة الوجود” 2

تناول ابن تيمية للهروي
ومع أن الخليفي يثبت لأبي إسماعيل الهروي قوله بالحلول الخاص، فغالب الناس لا تعرف معناه، وللتوضيح فالحلول الخاص هو “إثبات شيئين متميزين اتحد أحدهما بالآخر أو حل فيه وهذا إنما يقوله من يقول بالاتحاد الخاص المقيد أو الحلول الخاص المقيد” 3 أي إتحاد الإله بإنسان خاص.
ومع هذا لا يزال يقول بإمامته، ومشيخته للإسلام، ويدافع عنه قائلا هو حلولي خاص فحسب، وقد يكون الخليفي أجنبيا عن إدراك معنى أن تنسب (لشيخ الإسلام) القول (بالحلول الخاص) وتعذره لعاطفتك مع أنك بالغ التشنج مع غيره، وكأن الأمر فرع عن نشاط حزبي، ولا يدرك أن منشأ كفر النصارى هو هذا النوع، وقد أطنب ابن تيمية عند تعرضه لحلول الهروي أن ينسبه لمقالتهم، فهم يثبتون حلول اللاهوت بالناسوت، وهو نفس حلول الإله عند الهروي بإنسان يسميه العارف.
ولهذا كان ابن تيمية يقول “حتى صاحب منازل السائرين في توحيده المذكور… وهؤلاء يقولون في أهل المعرفة، ما قالته النصارى في المسيح والشيعة في أئمتها” 4 ولشيء من البيان، فإن الفرق بين الحلول العام وبين الخاص، أن العام رأي من يرى حلول الإله بعموم الحدث، بخلاف الخاص، فهو أن تثبت وحدة الإله بحادث مخصوص، وهو إنسان، يختلف من فرقة لفرقة، وهو “قول النصارى في المسيح، والغالية في علي” 5 “وقول الهروي في حق العبد العارف الواصل” 6
والخليفي يصور لقرّاءه أن الحلول الخاص ينجيه من التعرض لمساءلة، وهو الذي عهد منه متابعوه الغضب لمعتقد السلف، وأنه لا يرفع رأسا بمن تكلم في توحيد الله بعظائم، وهو اليوم يفضح نفسه بإثبات إمامة من يثبت له قولا بحلول الإله في ذات إنسان، فهل كان السلف – وهو المتكلم باسمهم- يرتضون إمامة مثل هذا؟ ولكن لأجنبيته عن الصناعة النقدية ليس بمتصور مآل قوله، وقد صار اليوم إلى إنهاك نفسه بالدفاع عن إمامة قائل بحلول الإله في مخلوق بعينه.
وأما من ينقل عن ابن تيمية براءة الهروي عن القول بالحلول، فهذه صناعة الأجنبي عن تراث الشيخ، وقد فسّر الذهبي ذلك بقوله “وقد كان شيخنا ابن تيمية بعد تعظيمه لشيخ الإسلام يحط عليه ويرميه بالعظائم بسبب ما في هذا الكتاب” 7 فهذا تغير موقف الشخصية العلمية، ولاحظ قوله (صار يرميه بالعظائم) بعد اطلاعه على المنازل. وكأني بالخليفي على مراتب العشق الإلهي لجلال الرومي بمولوية الصوفية منشدًا أبيات: ما وحّد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد.

في تحرير موقف الهروي بعيدا عن التقليد
يحاول الخليفي تقديم الهروي على أنه منزه عن القول بما نسبه له ابن تيمية، قائلا بأنه ألف (ذم الكلام). والخليفي لا يبحث المنازل مستقلا وإنما يستتر خلف ابن القيم تارة، ويجعل عماده في القرائن أن الهروي ألف ذم الكلام، ولا يدري أن مجمل رؤوس التصوف الفلسفي، ليسوا راضين عن علم الكلام، والهروي يصنّف توحيده بأنه “توحيد الصوفية” 8
والهروي (٤٨١ه) يرى أن “توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والشواهد هي الرسالة والصنائع، يجب بالسمع” 9 وهو نفس النسق الذي كان يسلكه من قبله ابن سينا (٣٧٠ه) “الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمون، مقربا ما لا يفهمون إلى أفهامهم” 10، فالعامة هم الجمهور، والرسالة هي الشرائع، وتوحيدهم هو مفهوم الشرع.

والهروي الذي سطّر عنوان (ذم الكلام) وأكفر فيه أهل التأويل، كان متسقا مع نفس النسق الصوفي الذي يعد انقلابا على السطوة الكلامية لقرون، وليس (ذم الكلام) ببعيد عن تلك الكُليمات التي ترددت فيما بعد على لسان ابن عربي الطائي (٥٥٨ه) وهو يخاطب أحد العوام عن أهل الكلام، قائلا: “وأين استواء بِشر على العراق الذي هو عبد، من استواء الخالق” 11 ويقول “ولكن إطلاق الاستقرار أولى لكون العرش جاء في الحديث بمعنى السرير” 12

ويقول في المتكلم “فإن غايته أن انتقل من التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فوقه في المرتبة” 13 ويحكم على الأشعرية بالهلاك: “عليك يا أخي بالتسليم لكل ما جاءك من آيات الصفات وأخبارها فإن أكثر المؤولين هالكون” 14 ويحكم على الأشعرية بجرح إيمانهم “اعلم أن الخير كله في الإيمان بما أنزل الله والشر كله في التأويل فمن أول فقد جرح إيمانه” 15 ويقول “لا بد أن يُسأل كل مؤول عما أوله يوم القيامة ويقول له: كيف أضيف إلى نفسي شيئا فتنزهني عنه، فإن حقيقته تعالى مباينة لجميع صفات خلقه وحقائقهم” 16
فهل يقال لا يستقيم حمل معاني الحلول والاتحاد، في كلام ابن عربي، بدليل إكفاره المتأولين، أشاعرة ومعتزلة، والطعن في إيمانهم، وأنه على تمام المباينة لأهل النفي؟
بين الهروي وابن عربي الطائي
وابن عربي ما إن يبدأ التمهيد لتوحيد الخاصة، حتى يقول “الرسل أعلم الناس بالله لكنهم تنزلوا في الخطاب على قدر أفهام الناس لا على ما هو عليه في نفسه، فإنه محال” 17 وهو المعنى الذي كان يدور الهروي في فلكه جاعلا “توحيد العامة يصح بالشواهد التي هي الرسالة” 18 وهي ما أتى على لسان الرسل بالسمع، وما إن يبدأ الحديث عن توحيد الخاصة، يعرفه بأنه “الصعود عن التعلق بالشواهد” 19 تلك الشواهد التي وسمها عند الحديث عن توحيد العامة قبل سطر بالرسالة.

وما إن يبلغ الهروي توحيد خاصة الخاصة، وهو الثالث، يقول “وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه، والذي يشار به عليه على ألسن المشيرين أنه: إسقاط الحدث وإثبات القدم” 20 وهي العبارة التي ستتكرر مع ابن الفارض الحلولي (٥٧٦ه) في قوله أن التوحيد “إسقاط الحدث وإثبات القدم” 21
وعند تناول ابن تيمية للهروي، ضبطه في مساره المتسق، مع ما اجتمع له من كلام غيره من شيوخ الفناء والحلول، فعلق على قوله: “وقوله: والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث، وإثبات القدم. فيقال: مرادهم بهذا نفي المحدث، أي: ليس هنا إلا القديم، وهذا على وجهين. فإن أريد به نفي المحدث بالكلية، وأن العبد هو القديم، فهذا شر من قول النصارى، إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى … وأبو إسماعيل يشير إلى ما يختص به بعض الناس ولهذا قال: ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته” 22
اقتباس عن الأنصاري في الحلول الخاص

تعليق ابن تيمية على قول الهروي

وعند قول الهروي: “توحيده إياه توحيده” 23 مريدا أن العبد من أهل الصفوة متوحّد مع الإله، قال ابن تيمية: “والنصارى مع كثرتهم يقولون: إن المسيح هو الله. وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحِّدُ هو الموحَّدُ” 24
الخليفي، متناقضا كلما تكلم
ثم خرج الخليفي بصوتية بعنوان (جولة إضافية في كشف التحامل) قال فيها “فيقولون لك يدافع عن الجهمية، هذه اسمها مصادرة عن المطلوب يا جماعة العقليات، فالبحث أنني أبريه من الأمر” 25 هذا وهو يثبت أن الهروي بلسان ابن القيم كان من الجهمية الغلاة في الجبر، بأشد مما هو عليه الأشعري.
ويكرر الخليفي قائلا في غيره: لا تقل أني أدافع عن الجهمية ما دمت أقول ببراءة الشخص من مقالتهم. ويتجاوز أن هنالك كتابا للهروي (٤٨١ه)، مطبوع، بعنوان: منازل السائرين، قال فيه: “وهو أن لا تشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا للنجاة وسيلة” 26 وقد علق عليه ابن القيم بقوله “والقول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية، أتباع جهم بن صفوان في الجبر، فإنه –الهروي- كان غاليا فيه” 27
وفي معرض كلامه عن موقف ابن تيمية من الهروي في مقال له بعنوان (لا يترك حق لباطل) يقول الخليفي:
“فصرح بموافقته للجهمية مع أنه يكفرهم! بل صنفه في غلاة الجبرية هو والأشعري … ولم أجد أحداً في زمن السلف بل قبل هذا العصر ينص على أن المخالفة المنتشرة بين الناس إذا كانت تنسب إلى رجل جليل أنها لا ترد، فهذا تأصيل غريب عجيب وهو من ترك الحق للباطل، ومن تعظيم الأشخاص على حساب الدين بل ومن الخيانة للمسلمين ، وهذا تأصيل محدث ما قال به أحد من السلف بل كون المخالفة تنسب إلى رجل جليل فإن ذلك أدعى لردها، لأن نسبتها إلى معظَّم أدعى لانتشارها بين الناس ولا فرق في هذا بين خطأ في العقيدة أو الفقه أو التفسير أو الحديث فالأمر كله دين وينبغي أن يرد على المخطيء خطأه في هذه الأبواب كلها حفاظاً على الدين ونصحا للمسلمين” 28
ثم يقول الخليفي في نفس المقال “وقد احتال الحزبيون قديما حيلة خبيثة فصاروا ينسبون كل من يرد عليهم إلى خدمة العلمانيين والليبراليين” 29 وهو ما إن تبدأ معه المحاققة، حتى ينسب من نقده في الهروي إلى الأشعرية ومذهب أهل الرأي، والطريف أنه يسمي هذا حيلة خبيثة.
والخليفي يرى أن المخالفة إذا كانت تنسب إلى رجل جليل فإن ذلك أدعى لردها، لأن نسبتها إلى معظَّم أدعى لانتشارها بين الناس، وما إن يحال إلى فحص المنهج، يقول “أنا أبريه من مقالتهم” ويجعل البراءة متعلقةً بالحلول فحسب، على أن الخليفي لو شرب حبر الأرض ما كتب حرفًا في براءته من الغلو في التجهم، وهو قول ابن القيم وابن تيمية فيه، ولكن يتخلّف حكمه عنه بالتجهم ما إن يبدأ التناغم العاطفي، فهو شيخ الإسلام وإمام المسلمين، ولكنه من غلاة الجهمية في القدر.

والهروي على قوله باسقاط الأسباب، كان يقول في باب الصفاء “الدرجة الثالثة صفاء اتصال يدرج حظ العبودية في حق الربوبية ويغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ويطوى خسة التكاليف” 30 فمرحلة من مراحل الصفاء لديه أن تسقط عن المصطفى “خسة” التكاليف، وهو نفس المسار الذي لف في دائرته ابن عربي الطائي، مخاطبا الولي الصاحي، قائلا “لا يزال الولي لا يقسط عنه خطاب الشرع بالأعمال، إلا أن تغلب عليه حالة تصيره كالمجنون أو المغمى عليه” 31 وهو الذي يقول في مقام مخاطبة العوام “الزلل الذي يقع فيه من لا معرفة له ممن ذمه الشرع من القائلين بإسقاط الأعمال” 32
والخليفي يقول قد تأول ابن القيم كلامه، وقد كتبوا قديما في تأول كلام ابن عربي أيضا، وفعل ذلك الهيثمي وغيره، ولكن المحاققة تسقط تسمية الرجال، والبحث يكون بتمحيص قول القائل بعينه. والخليفي ما إن يعارضه مخالفوه في التكفير بفهم ابن تيمية لكلام السلف، حتى يقول “من الغلط جعل كلام السلف لا يفهم إلا من طريق ابن تيمية”، فهو يفرق بين المتماثلين، فإن كلام الهروي بين أيدينا، وكتابه مطبوع، وكتبه بالعربية.
ويقول الخليفي أن الهروي مختلف فيه، في قوله بالحلول، ويجعل هذا مُخرجًا له عن المساءلة العلمية، وينسى أنه هو القائل في أبي حنيفة ملزمًا غيره “لماذا تترحمون عليه وقد اختلف في موته جهميا”، ويجعل الخليفي هذا الدين متصرفا له، ولا يقول حكما، ولا يطلق قاعدة إلا نقضها على بساطة أدواته في البحث.
مسألة في التناقض!
وعندما تكلم الخليفي عن [الجبر]، نقل قول النووي (٦٧٦ه) “مذهب أهل الحق الإيمان بِالقدرِ واثباته وان جميع الكائنات خيرهَا وشرها بِقضاء الله تَعَالَى وَقدره وَهُوَ مُرِيد لَهَا كلهَا وَيكرهُ الْمعاصِي مَعَ انه مرِيد لها” 33

ثم علق الخليفي قائلًا “مذهب أهل الحق الذي عناه النووي هو مذهب أصحابه الجهمية الأشعرية الجبرية وهذا المذهب في أن يحب الكفر والفسوق والعصيان فيه من الضلال وسوء الأدب مع رب العالمين الشيء العظيم وذلك أن القوم جبرية ورثوا إمامهم الأول الجهم بن صفوان في هذا الباب” 34 وقد سبق أن الهروي أوغل في الجبر، إذ قال “توحيد الخاصة، وهو إسقاط الأسباب الظاهرة، والصعود عن منازعات العقول، وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا، ولا في التوكل سببا” 35

ولأن الخليفي يرتضي تقليد ابن القيم في الهروي فقد سبق تعقيب ابن القيم عليه:
“والقول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية، أتباع جهم بن صفوان في الجبر، فإنه (الهروي) كان غاليا فيه، وعندهم أن الله لم يخلق شيئا بسبب، ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر، فليس في النار قوة الإحراق، ولا في السم قوة الإهلاك. ولهذا قال صاحب المنازل: وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا، ولا في التوكل سببا، ولا في النجاة وسيلة، بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلا على مثل بغير مرجح، فعنها يصدر كل حادث، ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترنا به اقترانا عاديا، لا أن أحدهما سبب الآخر، ولا مرتبط به” 36

وقد سبق أن الهروي (٤٨١ه) أقدم من النووي (٦٧٦ه) فالخليفي يتصور أن البحث العلمي المتسق، يسير بأدواته البدائية في النقد، فينسب سوء الأدب مع الله لخصم لأجل مقالة يقولها من يعتبره شيخ الإسلام وإمام أهل السنة في عصره، والخليفي لا يراجع، ولا يتراجع، ولا يتحمل أن يوضع على المحك، لنفسية يعانيها وهو المعتاد على التصدر للمراجعات، من دون أن يُراجَع، ويسأل الخليفي في نفس المقال عن جبر النووي: “فقد اعتقد في القدر عقيدة هي شر من عقيدة المعتزلة، فهل مثل هذا يكون إماما أو سنيًا وهل من نشر مثل هذه العقائد الخطيرة في الأمة يقال أنه خدم الإسلام؟” 37
الخليفي بين ابن تيمية، ومنطق أرسطو


وفي سياق محاولات الخليفي على بساطتها، أصدر صوتية قبل يومين بعنوان (تعليق على من صرح بالقصد الحقيقي)، وفي حين نسبه الناقد في كتابه إلى التناقض، قال الخليفي متهكمًا “عقليات عقليات عقليات، ولا يفرقون بين التضاد والتناقض” 38
وابن سينا في شرحه على المنطق، في الشفاء، يقول “إذا نظرت إلى التضاد من حيث هو تضاد، لم يوجب ما يوجبه التناقض” 39 فالقسمة اصطلاحية، مستمدة من الشروح على منطق أرسطو، ولا حياء أن يستعين بها الخليفي حتى يدفع عن نفسه ما جاء في كتاب سمرين، فهو ينفي عدم الاتساق عن نفسه، بعدم الاتساق. قد علق ابن تيمية في درء التعارض قائلا: “ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ متقاربة في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي، ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر” 40
فابن تيمية، الذي يشيد الخليفي بنقضه للمنطق، يشرح أن ألفاظ التناقض والتضاد متقاربة، ويلزم كل تضاد معنى التناقض من حيث اللغة، والخليفي يكتب عن فضله في الرد على المنطقيين، أن الغربيين استفادوا منه في مقال في مدونته، 41 فهل استفاد هو؟ فما إن تأتي المحاققة، يضرب بمخرجات ابن تيمية عرض الحائط، ويحتكم لاصطلاحات منطقية متكلما (باسم المنطق) لا (باسم السلف) الذين يجعلهم عماده هناك. ثم يعيب على غيره اشتغاله بالفلسفة، وما إن يوضع على السفود، يجعل اصطلاح المنطق عمادًا في حفظ ما تبقى منه.
ما أخطأ مرة فأصاب

وبعد صدور الكتاب بقليل، تكلم الخليفي كثيرا، ثم أنزل صوتية بعنوان (تتمة إلزامية)، إلزامية لاحظ، يقول فيها: “هناك مسألة معروفة في كتب أصول الفقه، وأنا أعرف جيدا أن الناقد لا يعرف عنها شيئا، وهي مسألة قبول رواية الكافر المتأول، ويذكرون دائما فيها خلافا” 42 ثم ينقل من نثر الورود، قول محمد الأمين الشنقيطي (١٣٩٣ه) قائلا “والكافر المتأول كالمبتدع بما يكفره إذا كان متدينا بدين يحرم الكذب … في بعض روايات أحمد قبوله” ثم علق الخليفي “فهو ينقل الخلاف”. 43
فهذا كلام محمد الأمين (١٣٩٣ه) والخليفي يذكر قوله تحت عنوان (الإلزام) فليت شعري من يلزم الخليفي بمثل هذا الكلام وهو القائل في مدونته: “واعلم رحمك الله ان الرواية لا تختلف عن أحمد في عدم جواز الرواية عن اللفظية والجهمية الصرحاء والمعتزلة، وهذا عليه عامة أهل السنة” 44
وهذا قول الخليفي منذ (٢٠١٣م)، ولم يرجع عنه ولا غيره من محله، وفيه نفي اختلاف الرواية عن أحمد في عدم جواز الرواية عن كافر متأول، وفيه أن (عامة) أهل السنة على هذا القول، وفي إشارة إلى الإجماع (عامة أهل السنة)، وفيه أن الخليفي يعتقد بصحة هذا المذهب عن أحمد، فهو (باسم السلف) يلتزم القول في عدم جواز الرواية عن كافر متأول، كالجهمية والمعتزلة واللفظية، ويغلّط مذهب من يجيز ذلك بهذا.
ثم في (٢٠٢٤م) ما أن يجد الخليفي من ألزمه في هذا بأنه يقبل روايات عمن يكفرهم هو من المتأولين، يترك الكلام (باسم أحمد، وعامة أهل السنة) على الرف، متجها نحو كتب أصول الفقه، ناقلا من نثر الورود “في بعض روايات أحمد قبول رواية الكافر المتأول” (٢٠٢٤) بعد أن كان يرى “أن الرواية عن أحمد لا تختلف في عدم جواز الرواية عنهم” (٢٠١٣) والطريف أن عنوان مقطعه (تتمة إلزامية) فما أخطأ مرة فأصاب.

هشام ابن عمار، ومسرحية عبد الله الخليفي
بعد أن ألزم سمرين الخليفي بأنه يصحح أحاديث من طريق هشام بن عمار، ويعتبره من الثقات الكبار، مع تكفير أحمد له لقوله باللفظ، خرج الخليفي برواية في كتاب العلو للذهبي (٧٤٨ه) يدعي أن فيها إثبات براءة هشام بن عمار من قول اللفظية. والرواية من حيث الأصل، أول كتاب جاءت فيه، هو تاريخ دمشق، لابن عساكر (٥٧١ه)، والذهبي (٧٤٨ه) نقلها من ابن عساكر (٥٧١ه) مع حذف نصف السند، فما سند هذه الرواية كاملًا؟
- السند الذي ينقله الذهبي (٧٤٨ه) : قال أبو الفضل يعقوب بن إسحق بن محمود الحافظ حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور البزاز، سمعت هشام بن عمار ويبلغه أن أناسا ينسبونه إلى اللفظية، فغضب وقال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق 45

- السند الأصلي لابن عساكر (٥٧١ه) : أخبرنا أبو محمد الحسن بن أبي بكر بن أبي الرضا الفامي حفيد العميري أنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى الفضيلي أنا أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الخذاباني الوراق نا أبو الفضل يعقوب بن إسحاق بن محمود الفقيه الحافظ نا عبد الله بن محمد بن منصور البزاز قال سمعت هشام بن عمار وبلغه أن اناسا ينسبونه إلى اللفظية فغضب 46 إلى آخر الرواية.

الذهبي كما نرى، يبدأ السند من أبي الفضل، حتى أنه ينقل (الحافظ) بنفس الطريقة التي قرأها لدى ابن عساكر في تاريخ دمشق (الفقيه الحافظ)، ويحذف من قبله: أبا علي الحسن بن محمد الخذاباني الوراق إلى أول السند. والخليفي ينقل النزاع إلى الجزء الذي كشفه الذهبي من السند: أبي الفضل، وعبد الله البزاز.
لكن (أبو علي الحسن بن محمد الخذاباني الوراق) الذي تدّعي الرواية أنه نقل عن (أبي الفضل) لم يوثقه أحد، ولا من قبله (أبو محمد الحسن بن أبي بكر بن أبي الرضا الفامي) فالرواية ضعيفة، حتى أن الذهبي في كتاب العلو، لما أراد براءة هشام، حذف الخذاباني ومن قبله من السند، وهذا لا يرتضيه الخليفي عندما ينقل الذهبي بنفس الأسلوب في براءة أبي حنيفة وإمامته، ولكنه هوى الانتقاء، واختار الخليفي أن يجعل العلو للذهبي مصدرًا، لتكون المسرحية (باسم الذهبي) مع أن الذهبي هنا ليس بمصدر، بل هو مرجع ثانوي، بخلاف (تاريخ دمشق) فهو المصدر لهذه الرواية.
وبعد التعرض للخليفي حول رواية براءة هشام ابن عمار، لوجود مجهول في سندها الأصلي لدى ابن عساكر، تحول إلى الاستعانة ببعض ما كتبه أتباعه، فقال: الذهبي صرح أن لأبي الفضل كتابا في الرد على اللفظية، مدللًا بمثل هذا التحليل، على أن الذهبي لم يأخذ الرواية من طريق ابن عساكر، بل من كتاب أبي الفضل، فكيف يجري التعامل مع مثل هذه المجازفات؟
- كون أبي الفضل ألف كتابا في الرد على اللفظية، والذهبي قرأه، لا يعني أن الرواية موجودة في كتاب أبي الفضل، فالذهبي لم يقل أنه قرأها فيه، ولكن الذهبي نقل جزء من السند الذي نقله ابن عساكر، دلالة على أنه نقل الرواية من تاريخ دمشق لابن عساكر، وكون أحمد ألف كتابا في (الرد على الجهمية) لا يعني أن كل روايات أحمد في الرد عليهم هي من هذا الكتاب، كما تُصوّره طريقة الخليفي.
- نقل الخليفي عن غيره أن أبا علي الوراق ليس مجهول عين، فهب أن له ذكرًا في محل بتصحيف، كيف صيّره ذلك موثوقا وليس هنالك رجل قال: هو ثقة أو أثنى عليه، والخليفي تعنت في رد رواية محمد بن عبد الله بن إدريس في ما نقله عن وكيع بأقل من هذا، ومحمد بن عبد الله أثنى عليه أحمد، وهشام بن عمار جهمه أحمد، فجعل الخليفي يرد على أحمد برواية في سندها من لم يوثقه رجل، مع تعنته في رواية من أثنى عليه أحمد.
اقتباسات من كتاب باسم السلف
“في سياق اعتذاره عن موقف مسلم (٢٦١هـ) قال (الخليفي): معلوم أن هناك فرقا بين الرواية عن واقفي والرواية عن شخص لا يكفر الواقفة جهلاً. وهذا الفرق يعني أنه يراه مسلما، لأنه ليس بواقفي، إنما هو لا يكفر الواقفة، وهو نفسه احتج بيعقوب بن شيبة، وهو واقفي! وهكذا يكون المنهج! ثم جعل موقف مسلم (٢٦١هـ) موقفاً للسلف، ثم عند موقف سلمة (٢٤١هـ) قال: هذا غضبهم ممن لم يكفر الواقفة، وهذه تعود إلى من؟ إلى السلف، أليس كذلك؟” 47
“وكان الخليفي قد نقل الإجماع على أن الرواية لا تجوز عن كافر، فما الحيلة في هذا؟ هل هي بالقول لقد احتاج البخاري إلى علو في إسناده، فهل هذا عذر كي يروي عن كافر بنظره؟ لو كان كذلك لكان عذرا للإمامية فيما وصفه بخرق الإجماع. ولعله وجد ضعف ما قاله في هذا فقال (أي الخليفي):
هذا إن سلمنا أن البخاري عرف ذلك عنهم”، فهو لا يبين هل عرف البخاري ذلك أو لم يعرف؟ وبدل أن يحقق الأمر على وجهه، بدأ في الجدال. فلنفرض أن البخاري لم يعرف، فها أنت قد عرفت، فهل تصحح أثرا أو حديثاً فيه علي بن الجعد؟ نعم! لقد صحح الخليفي إسناداً فيه علي بن الجعد عن عمرو بن العاص وعن محمد بن المنكدر. وهو الذي قال: لو سلمنا أن البخاري عرف حاله، فها أنت عرفت، فما الفرق الآن عندك بين الرواية عن الواقفة، وعمن لم يكفر الواقفة؟ وهذا يدل على أن ابن الجعد ليس كافراً عندك. ألم تعير الإمامية بالرواية عن فطحي؟” 48
“وتعرض الخليفي لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (٦٧١هـ)، وهو يسلم بأنه لا يقول بالعلو الحسي، فنقل عنه قوله: أظهر هذه الأقوال، وإن كنت لا أقول به، ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف” 49 وعلق على هذا الخليفي بقوله:
جاء في باسم السلف ص36/ 37:
“فتأمل قوله: (لا أقول به) مع اعترافه بأنه الحق الذي تظاهرت عليه الأدلة، فهذا برهان على الهوى، الشاهد في هذا أن الخليفي يسلم بأن القرطبي ينكر العلو الحسي، ويقول: (فهذا كيف يقال بأنه لم تقم عليه الحجة؟) فيسأل منكرًا، وهو ما يعني أنه قد أقيمت عليه الحجة عنده، وهو نفسه قال: يتعين الحكم على الجهمية منكري العلو، وعباد القبور أنهم كفار بأعيانهم.
هذا الخبر ما وجدته في مكان آخر وليست هذه أول مرة أقف فيها على خبر لا أصِل إليه في مكان آخر، في تفسير القرطبي فلو تفرغ باحث لجمع ما يقف عليه في تفسير القرطبي من هذا الضرب لكان أمرا حسنا فهو مظنة للفوائد، ثري بالأخبار
وحين كتب الخليفي نهى أئمة السلف عن محبة أهل البدع كان مما نقله: قال القرطبي: استدل مالك من هذه الآية على معاداة القدرية، وهكذا يكون النقل عن مالك (۱۷۹هـ)، ثم قال القرطبي نقلا عن ابن خويز منداد
وهكذا عن ابن منداد (۳۹۰هـ)، فهل ينقل كلام السلف من جهة من يعتقد بكفره بعينه؟ ويكون يطلب الإسلام عند غير أهل الإسلام بتقديره. فهذا (الخليفي) القائل: “تكفير الأشاعرة قول معروف مشهور باعتبار أنهم جهمية وكل جهمي كافر
كيف يعير الإمامية برواية عن فطحي؟ وهو الذي يصحح من جهة ابن عساكر الأشعري، والبيهقي الأشعري، وأبي نعيم الأصبهاني الأشعري، وهو المصرح بكفر مقالاتهم، وطوائفهم، ولم تجاوز في التكفير الرواة تحديدا.
فإن كان هؤلاء الرواة على ما فيهم، قد احتج بهم الخليفي، فإنه لا يقول بفسقهم، ولا كفرهم، بل بعدالتهم، ويجعل ما صححه من طريقهم حجة إلى من ينتهي إليه الإسناد، فإن كان عن صحابي فهو يقول: إنَّ قول الصحابي حُجَّة، وهكذا يضحي الأمر دينا من جهتهم
وإن كان في رواية عن تابعين أو من بعدهم يقول: هؤلاء السلف، وهو الذي عير الإمامية برواية عن واحد فطحي قال: جعلتم فرقته ومقالته كفرية، فكيف وهو الذي حشد كل هؤلاء؟
وهو نفسه الذي يطلق التكفير في طوائفهم مرة، ويعد مخالفاتهم في الظاهر الذي لا عذر فيه، ويبتكر قاعدة كل حين بما يتمشى مع غرضه، ومن أراد أن يفتعل جلبة حوله قال فيه: “كلام ابن حجر العسقلاني هذا أذكره إلزاما لمن يتكثر بهذا الرجل ويعده إماما”
وهؤلاء الذين كنت تذكرهم ألا تتكثر بهم؟ ولا تعدهم شيئًا ؟ فيا ليت شعري هل هذا الذي يعيب على غيره: تجويزهم الحيل؟ ثم هو القائل بأنه: يتعين الحكم على الجهمية منكري العلو، وعباد القبور أنهم كفار بأعيانهم.
ويجعل هؤلاء الذي أوجب تكفيرهم بأعيانهم مصدر معرفته بالسلف، فيصحح من طريقهم، ويجعل المنقول منهم دينا، فهذه الحيلة تقلب الكافر – بنظره – إلى أحد الثقات الكبار!
بل إنه الذي يقول: “لا يُشهد لأحد بأنه صاحب سنة حتى يبرأ من هذه الأهواء، فكيف يجعل المتلبس بشيء من هذه الأهواء إماما في السنة”، فيظن أن الإمامة محض لفظ توجد بذكره وتزول بحذفه”.

فوضى الخليفي، أمام منهج الشافعي
“لقد حرص الشافعي على رسم منهج متسق يبعد سالكيه عن الذاتية، ليقترب بهم إلى الموضوعية، فلا يقبل أن يبني حجة في موضع ثم يدفعها في آخر، لا كما يتصور الخليفي أنه كان كجندي في معركة ضد أهل الرأي. يقول الخليفي في وصفه: «هو أول من جرد لأهل الرأي ومناظرتهم، على طريقة مختصة به من أهل الحديث، هو إمام عظيم له نظره له تجديده».
ولم يفطن إلى أن الشافعي نقد أمثال طريقة الخليفي المنتسبة إلى الحديث، ولم يحابها، ولم يكن له ذلك وهو يكتب في بيان كيف تكون الحجة، وما الأدلة، وكيف يكون الاستدلال. فلم يقتصر في نقده على أهل الرأي فقط.
بل قال الشافعي (204هـ): «رأيت الرجل يقنع بيسير العلم ويريد ألا يكون مستفيدًا إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجح، فيكون من أهل التقصير في العلم، ورأيت من عاب هذا السبيل ورغب في التوسع في العلم، من دعاه ذلك إلى قبول عمن لو أمسك عن القبول عنه كان خيرًا له، ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبل عمن يرد مثله وخيرًا منه، ويدخل عليه، فيقبل عمن يعرف ضعفه، إذا وافق قولًا يقوله، ويرد حديث الثقة إذا خالف قولًا يقوله».
هذه الفوضى رفضها الشافعي، ولو قيل إن الخليفي وقع في هذا كله ما أبعد القائل. فتجد أنه يكاد يجعل الحق الذي لا محيد عنه في قول أحمد، ثم يخالفه إلى غيره متى عنّ له، ويتوسع في دفع كل ما لا يرضيه، حتى لو كان دفعه له بالتضييق في شروط قبول الرواية، وهو الذي لا يقول بها حين ينتصر لقول، فيسهل حينها في الراوي، ويصبح احتجاجه بحال من روى عنه لا الراوي، أو بالقول: لم يقف على إنكار لتلك الرواية، أو أن من خرجها أقرها، وتارة يتناقض فيقبل في موضع شيئًا ثم يرفض مثله في آخر وهو على الشرط نفسه” 50
عندما يعاد ضبطك على إعدادات المصنع!

يرجع الخليفي إلى إعدادات المصنع بعد كل منشور، ليسجل ما يقارب الساعة، مكررًا محتوى صوتياته السابقة، بنفس الخاتمة، في بيان اضطراري مشيرًا في كل صوتية إلى أنها آخر ما سيشارك به، قال في صوتية أخيرة له “قول الهروي في الجبر، النووي مثله، بل النووي أسوأ، وقول الأشاعرة في القدر مبني على نفي الصفات أصلا… مع تبرئة من برأه أيضا في هذا السياق، أنا ما أثبت الجبر وأقول فلان سني، ما قلتها” 51
الخليفي شخصية متنقّلة بشكل فج، لا يثبت على مذهب في مسألة إلا ونقضه عند الحاجة إلى غيره من الأقوال، مثلا هنا: يقول إن “الهروي يقول بنفس قول النووي في الجبر”، ثم يقول: “مع تبرئة من برأه”، أي من الجبر. ولو عدنا إلى ابن تيمية وابن القيم، سنجد أن كلًّا منهما يصرح بأن “الهروي من غلاة الجهمية في الجبر”52
فمن برأه من هذا؟ إنه التلاعب بالأدلة، وفي ٥٠ دقيقة كاملة، لا يقدم الخليفي حجة، ولا يناقش مسألة، حتى يكسر الملل بالميل نحو من مناكفات شخصية. ثم يقول الخليفي “إن جبر النووي أسوأ” 53 وابن تيمية عندما تكلم عن جبر الأشعرية مقارنًا له بجبر الهروي لم يعزز أهواء الخليفي، بل قال:
“ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال: أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة” 54 فابن تيمية يجعل قول الهروي أبلغ بدعيّة من قول الأشعرية، وأوغل في نفي حكمة الله، حتى إن ابن القيم قال:
“هو توحيد القدرية الجبرية أتباع جهم بن صفوان في الجبر، فإنه [الهروي] كان غاليا في الجبر […] وطَردُ هذا المذهب مفسد للدنيا وللدين، بل لسائر أديان الرسل” 55 والخليفي لم يبرهن لقرَّائه كيف يقول هو بمعزل عن المقابلة لخصومه أن الهروي إمام من أئمة السنة، مع أنه جبريٌّ جبرَ جهم بن صفوان، كما أثبت ابن القيم وابن تيمية، وكما هي نصوصه الواضحة في المنازل.
على أن السؤال المتجه له: أنت تقر بمطابقة رأي النووي لرأي الهروي، في قول تجعله علةً في إسقاط سنَّية الشخص عند كلامك عن جبر النووي، فما المبرر العلمي الذي يمثِّل حجةً لتعذر الهروي فيما لا تعذر فيه غيره بهذا القول؟ يتحذلق الخليفي طويلًا، ولا يقدم جوابا علميًا. بل يعوّض انكساره في الهروي إلى رفّ: يلزمكم نفس القول في غيره، فهو يقدم أجوبة تصلح فقط عند الجدال، ويتهرب بهذا من حل المسألة العلمية.
ومن النماذج الذي تكشف مستوى شخصية الخليفي العلمية ما يلي:
- يقول إن الجبر علة في “إسقاط السنية” 56 فأطلق حكمًا عينيًا بإسقاط سنيّة كل من يقول بالجبر!
- ثم يقول إن الهروي قال بالجبر، فيصرح بمخالفته له قائلا “الهروي ولو خالفناه في مسائل القدر” 57
- ثم يقول “الهروي يقول بنفس قول النووي في الجبر” 58 فهو يثبت عليه الجبر!
- ثم يقول “قال شيخ الإسلام الأنصاري الهروي” 59 فهو شيخ الإسلام عنده أي الوصف الذي يجاوز مجرد إثبات السُّنيَّة، ثم يقول “أبو إسماعيل الهروي متفق على ثقته” 60
- واليوم يتنكَّر لأقواله السابقة، فيقول “أنا ما أثبت الجبر وأقول فلان سني ما قلتها” 61 عند كلامه عن الهروي.
تضاد هذا أم تناقض؟ متفق على ثقته، إمام السنة، ولكنه قائل بالجبر، يخالفه في القدر، يجعل قوله مسقطًا للسنية، ومع ذلك يبقى شيخ الإسلام! متناقضًا كلما تكلم.
المراجع
- منهاج السنة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٠٦ه- ١٩٨٦م، ج٥، ص٣٤٢. ↩︎
- باسم السلف، نظرة نقدية في طرح عبد الله بن فهد الخليفي، دار مسك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ٢٠٢٤م، ص٣١. ↩︎
- مجموع الفتاوى، ج٢، ص٤٥٠. ↩︎
- مجموع الفتاوى، ج٥، ص١٢٦. ↩︎
- الرد على الشاذلي، لابن تيمية، ج١، ص٢٢٥. ↩︎
- مجموع الفتاوى، ج٥، ص٤٨٥. ↩︎
- مجموع الفتاوى، ج٥، ص١٢٦. ↩︎
- منازل السائرين، الهروي، ص١٣٩. ↩︎
- منازل السائرين، الهروي، ص١٣٦. ↩︎
- رسالة أضحوية في أمر المعاد، أبو علي ابن سينا، ضبطها وحققها سليمان دنيا، الطبعة الأولى ١٣٦٧ه–١٩٤٩م، ص٥٠. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٥٠. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٥٠. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٥٠. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٤٤. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٥٥. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٤٢. ↩︎
- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، نقل من الفتوحات المكية لابن عربي: أبو المواهب الشعراني، ج١، ص١٤٤. ↩︎
- منازل السائرين للهروي، ص١٣٦ ↩︎
- منازل السائرين للهروي، ص١٣٧. ↩︎
- منازل السائرين للهروي، ص١٣٧. ↩︎
- كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدر – شرح تائية ابن الفارض، أحمد فريد المزيدي، ٢٠٠٥، ص٣٥. ↩︎
- منهاج السنة، ج5، 383. ↩︎
- منازل السائرين للهروي، ص١٣٧. ↩︎
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، ج٣، ص٣٢٥. ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6371 ↩︎
- منازل السائرين، الهروي، ص١٣٧. ↩︎
- مدارج السالكين، ابن القيم، تحقيق المعتصم بالله البغدادي، ج٣، ص٤٥٨- ٤٥٩ ↩︎
- مقال الخليفي: لا يترك حق لباطل:
https://alkulify.com/%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D9%83-%D8%AD%D9%82-%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D9%84 ↩︎ - نفس الرابط السابق. ↩︎
- منازل السائرين، الهروي، ص١٠٣. ↩︎
- الإنباه على طريق الله لابن عربي ويليه شرح الصلوات الأكبرية، بدر الحبشي، ٢٠١٩، ص٥٢. ↩︎
- نقله عنه شارح القصيدة النقشبندية، ص٢٥٣. ↩︎
- الأصول والضوابط، النووي، ص٢٣. ↩︎
- من مقال للخليفي على مدونته بعنوان: قول الأشاعرة في القدر مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة. ↩︎
- منازل السائرين للهروي، ١٣٧. ↩︎
- مدارج السالكين، ابن القيم، ج٣، ص٤٥٨. ↩︎
- من مقال للخليفي على مدونته بعنوان: قول الأشاعرة في القدر مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة. ↩︎
- صوتية للخليفي بعنوان: تعليق على من صرح بالقصد الحقيقي. ↩︎
- الشفاء، ابن سينا، ج١، ص٢٥٨. ↩︎
- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ج٥، ص٢٧١. ↩︎
- مقال للخليفي بعنوان: اعتراف كاتب رافضي بجهد ابن تيمية في نقد المنطق واستفادة الغربيين منه. ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6345 ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6345 ↩︎
- من مقال في مدونة الخليفي بعنوان: الرد على عبد الله الغليفي في قوله : الخوارج لهم تأويل سائغ وشبهة معتبرة. أنظر الصورة أعلاه. ↩︎
- العلو للذهبي (٧٤٨ه)، ص١٨١ ↩︎
- تاريخ دمشق لابن عساكر (٥٧١ه)، ج٣٢، ص٣٧٠ ↩︎
- باسم السلف، نظرة نقدية في طرح عبد الله الخليفي، دار مسك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ٢٠٢٤م، ص١١. ↩︎
- المرجع نفسه، ص١٣. ↩︎
- باسم السلف، نظرة نقدية في طرح عبد الله بن فهد الخليفي، دار مسك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ٢٠٢٤م، ص٣٦ ↩︎
- باسم السلف، نظرة نقدية في طرح عبد الله بن فهد الخليفي، دار مسك للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ٢٠٢٤م، ص۱۰۲ ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6410 ↩︎
- قول ابن تيمية: الاحتجاج بالقدر لابن تيمية، ص٦٥ / مدارج السالكين لابن القيم، ج٣، ص٤٥٨- ٤٥٩. ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6410 ↩︎
- مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج١٤، ص٣٥٤. ↩︎
- مدارج السالكين، لابن القيم، ج٣، ص٤٥٨. ↩︎
- من مقال للخليفي على مدونته بعنوان: قول الأشاعرة في القدر مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة. ↩︎
- في مقال للخليفي بعنوان: تعقيب على مقطع يوسف الغفيص في أبي إسماعيل الأنصاري ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6410 ↩︎
- https://t.me/alkulife/10768 ↩︎
- من مقال له بعنوان: الدفاع عن كتاب السنة للإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد. ↩︎
- https://t.me/doros_alkulify/6410 ↩︎
اترك رداً على محمد احمد حامد علي إلغاء الرد